على صعيد السياسات الداخلية لا شيء يخشاه السياسي بصورة عامة أكثر من كبر الفجوة أو الهوة بين الطبقة الغنية والثرية والطبقات الفقيرة وغير القادرة. وفي المجتمعات الغربية تعتبر هذه المسألة موضوعا محوريا بامتياز توجه إليه اهتمامات مراكز البحث والجامعات وتوظف لأجلها الإحصائيات والمؤشرات لقياسها وتحليلها وتفسيرها. ولعل الولايات المتحدة كانت أول من انتبه وأدرك خطورة هذه الفجوة وذلك حين وصلت إلى ذروتها في حقبة الخمسينات من القرن الميلادي الماضي. في تلك الفترة حصلت مجموعة من التشريعات والتنظيمات والسياسات لتقنين الفجوة وتحسين معدلات التنمية ورفع الحدود الدنيا من المرتبات، ولكن الأهم أن أميركا بدأت تقدم على حملة مقننة مع كبرى شركات العلاقات العامة لتحسين الصورة العامة للفجوة و«تخفيف» حدتها في ظل الصعود الكبير لنفوذ المعسكر الشرقي الذي كان يروج للاشتراكية بقوة وعنف، وبدأوا يقدمون الحلول المختلفة «لضم» المتضررين من الفجوة إلى المجتمع ككل، فخرجت مجاميع العمل التطوعي بمباركة الرئيس جون كيندي الذي طالب بأن يكون للمجتمع الأميركي دور اجتماعي جديد واستباقي، وأطلقت مبادرات المسؤولية الاجتماعية للشركات وخرجت من كل ذلك إدارة الصورة الذهنية للشركات وذلك عن طريق معلم العلاقات العامة الأول وجهبذها إدوارد برنيز، وبذلك نجحت الولايات المتحدة في «تخفيف» حدة المظهر والمشهد العام للفجوة الهائلة ولكنها لم تستطع أبدا القضاء عليها. اليوم يخرج تقرير خطير على صفحات صحيفة «نيويورك تايمز» الرصينة يقول إن الفجوة توسعت جدا، وهي اليوم أعمق وأخطر من أي وقت مضى. ولهذا التقرير أبعاد لافتة ومهمة وخطيرة، فالمراقب للمشهد الاقتصادي في أميركا لا بد أن يكون قد لفت نظره القلق الأميركي من النسب المتزايدة والمتسارعة والمتتالية في عجز أعداد كبيرة من المواطنين الأميركيين عن سداد أقساط الجامعة وهذه مسألة خطيرة جدا حيث تبيع البنوك الأميركية سندات ديون الجامعات كقروض من الدرجة الممتازة في سوق القروض حول العالم وإذا «سقطت» هذه النوعية من القروض في سوقها ستنخفض درجة تقييمها مما ينذر بتسونامي مالي يفوق بكثير ما حصل في العجز الذي أصاب سوق العقار والبناء منذ فترة ليست بالبعيدة. ولذلك تتحرك اليوم الإدارة الأميركية بشتى الطرق للحاق استباقي ووقائي بهذه المشكلة حتى لا تتحول إلى كارثة. الأميركيون للمرة الأولى توصلوا لقناعة واضحة أن الحلم الأميركي بات صعب التحقيق، والحلم الأميركي كان باختصار ضمانة أن كل جيل قادم سيكون في وضع مادي أحسن من الذي قبله. اليوم هذا لم يعد ممكنا. وهذه الحالة الأميركية التي تم وصفها حالة عالمية لا تقتصر على الولايات المتحدة وحدها فقط بل تمتد إلى الدول الصناعية الأولى وكذلك سائر دول العالم. ولعل الدول الوحيدة التي تمكنت من تحقيق ما يمكن أن يسمى بالوسادة السميكة هي الدول الاسكندنافية وكندا وجميعها اعتمدت خليطا محكما جدا بين الرأسمالية والاشتراكية، فكانت تتحكم في الرأسمالية حتى لا تتوحش وتضع قيودا على الاشتراكية حتى لا تحرم الغير من طموحهم الفردي، فأصبحت الدولة حاضنة ومقدمة للخدمات بعدالة وأمانة عن طريق المساهمة الضريبية الواضحة الملامح والخاضعة للمراقبة والمساءلة والتدقيق. اليوم هناك طغيان رأسمالي في الغرب، فهناك إصرار على إبراز خصوصية الثراء أو ما يسمى فئة الإصدار المحدود فكل شيء غلا ثمنه وندر وكان حصريا بات مرغوبا مهما كانت تكلفته، وهذا المشهد يبرز بشكل هائل في الصالات والملاعب الرياضية التي يكون فيها ما يعرف «بصناديق السماء» وهي غرف تباع بالملايين للشركات والرعاة والشخصيات الثرية فتكون في قمة البناء وينظرون خلالها على سائر الناس من علٍ وهذا هو الذي ولد بشكل هستيري فكرة أن أقل من 1 في المائة من كل مجتمع لديه أكثر من 80 في المائة من ثروة هذا المجتمع وهذا هو بيت القصيد. الخلل عظيم وهذا يزيد بقوة مع دول تتبنى أسلوب «إعادة الهندسة الاجتماعية» لشعوبها عبر التمكين الاقتصادي الحصري والمقنن مهما كانت شعاراتها براقة ومثالية وعظيمة.
مشاركة :