قبل خمسة عشر عاماً، كنا لا نزال في المراحل الأولى من الغزو والاحتلال الأميركي للعراق، «الحرب التي من شأنها أن تغير كل شيء». وبالنظر إلى الشرق الأوسط اليوم، أشعر بحزن كبير وأنا أنظر وأفكر في الأثر المدمر البعيد المدى الذي خلفته حرب العراق على بلدي والمنطقة وشعوبها. كان المحافظون الجدد يدفعون بقوة إدارة بوش لشن حرب ضد العراق بدأت مباشرة بعد الهجمات الإرهابية المروعة في الحادي عشر من سبتمبر لعام 2001. لقد تجادلوا على أن أميركا بحاجة إلى الرد بقوة على الهجمات وزعموا أن إظهار قوة حاسمة كان ضرورياً لتوضيح الهيمنة الأميركية بوضوح وإحباط أي تحرك نحو القطبية المتعددة في حقبة ما بعد الحرب الباردة. يجدر التذكير بأن الحرب كانت مبنية على الأكاذيب، وبهذا لا أقصد الأكاذيب حول برنامج صدام النووي أو علاقته بإرهابيي 11 سبتمبر، وإنما على الأكاذيب الأكثر خبثًا التي مفادها أن الحرب مسألة سهلة وأنها لن تتطلب التزامًا كبيرًا بالقوات أو نفقات الموارد وأن الحرب ستنتهي بسرعة وأن الديموقراطية ستترسخ في العراق وأن الشرق الأوسط بأكمله سيتحول. بعد مرور خمسة عشر عامًا، تبين أن أحد هذه المزاعم صحيح وهي أنه سيتم تحويل المنطقة، لكنه لم يكن التحول الذي تصوره المحافظون الجدد. مرة أخرى، يجدر التأكيد على مدى الدمار الذي خلفته تلك الحرب. لقد كشفت الحرب نفسُها عن الانشقاقات العميقة في المجتمع العراقي، في حين أن خداع الاحتلال الأميركي الخطأ لم يؤدِ إلا إلى تفاقم هذه الانقسامات. ومع تفكيك الجيش العراقي ومؤسساته، وقعت البلاد في فوضى مع الميليشيات الطائفية المتنافسة التي أطلقت حربًا أهلية. وقد أدى هذا إلى النزوح الجماعي للمدنيين – ملايين منهم أصبحوا لاجئين أو نازحين داخليًا -وموت مجتمعات الأقليات الدينية الضعيفة. كل هذا وقع تحت مراقبة إدارة بوش. وكانت النتيجة المأساوية للحرب هي انتشار التطرف. وبعيداً عن الهزيمة، تحول تنظيم القاعدة إلى أشكال جديدة وأكثر فتكاً في العراق، وجوارها المباشر، وبلدان خارجها. في هذا العراق الضعيف والممزق، وجدت إيران موطئ قدم لها تستفيد منه لمصلحتها. اليوم، تبقى إيران لاعباً رئيسياً في العراق وليس فقط هناك. النتيجة الأخرى غير المقصودة للحرب كانت إطلاق إيران كقوة إقليمية. خاضعة لفترة من الوقت، من قبل عدوها المتنافس، أصبحت إيران الآن قادرة على توسيع ذاتها خارج حدودها. وبسبب تنامي المشاعر المعادية لأميركا والتوترات الطائفية في بلدان أخرى، فإن إيران الثورية قد شجعت على التدخل في الشؤون الإقليمية مما أدى ذلك إلى شعور دول الخليج العربي بالحاجة إلى إثبات ذاتها ضد هذا التهديد الإيراني المتنامي والمزعزع للاستقرار. كما شجعت حرب المحافظين الجدد إسرائيل على السعي بقوة والمواصلة لتحقيق أجندتها لإخضاع الفلسطينيين وتوسيع نطاق مشروعها الاستعماري. الولايات المتحدة، التي كانت في يوم من الأيام القوة العظمى المهيمنة التي فازت بالحرب الباردة وبنت ائتلافاً دولياً لتحرير الكويت، وجدت نفسها الآن متعثرة في حرب لم تستطع كسبها بسبب ضعف جيشها وإضعاف معنوياتها بسبب الخسائر. الولايات المتحدة أيضاً فقدت مصداقيتها في العالم العربي نتيجة فشلها الدموي والسلوك البغيض في العراق ورفضها العنيد لمجابهة عميلها / حليفتها إسرائيل. إن جهل المحافظين الجدد بحقائق الشرق الأوسط قد ولَّد بالفعل شرق أوسط جديداً، لكنه كان بالضبط عكس ما كانوا يتصورون. ومع انحدار المنطقة إلى أزمات جديدة متعددة – في ظل حروب قاتلة ومميتة في سوريا واليمن – أصبح تأثير حرب العراق أكثر وضوحاً. وكانت إيران لاعبة في كل منها. كما شاركت دول الخليج في البحث عن طرق لمكافحة التقدم الإيراني الذي يهددهم. لقد لعب «القاعدة» وفروعه دورًا جديدًا ومميتًا في العراق وسوريا. كما ظهر لاعبون جدد مثل روسيا وتركيا، يدافعون عن كل ما يرون أنه لمصلحتهم، كجهات فاعلة إقليمية. في هذه الأثناء، كانت الولايات المتحدة، التي ضعفت دبلوماسياً ولا تزال تلعق جراحها من الحرب في العراق، متعبة ومنهكة جداً من الحروب وحذرة من الانخراط مباشرة في الأزمات الإقليمية الجديدة. وقد ألقى البعض اللوم على إدارة أوباما السلبية. لكن فشل هذا في ادارك حقيقة أن الجيش الأميركي حذّر بعد الحرب على العراق، من المشاركة في الصراعات التي لم يتمكنوا من إدارتها دون التزام طويل المدى يساعدهم في التوصل إلى حل. إن في هذا العالم الفوضوي الجديد المتعدد الأطياف، خرجت الصراعات عن السيطرة، وأصبحت أكثر فتكاً وزعزعة للاستقرار أثناء نموها. ولقد أدى الصراع السوري بحياة نصف مليون شخص بينما أجبر أكثر من خمسة ملايين شخص على أن يصبحوا لاجئين. وقد خلق هذا ضغوطاً جديدة في البلدان المجاورة وأطلق موجة من المد والجزر التي تحارب الآن الديموقراطيات في أوروبا الشرقية والوسطى. وقد تحولت المعركة في اليمن، التي بدأت كمجهود لاستعادة الحكومة الشرعية التي أطاح بها فصيل متمرد، إلى نزاع إقليمي مستنزف وكارثة إنسانية. وهكذا.. ها نحن بعد مرور خمسة عشر عاماً، حيث خفّضت الولايات المتحدة دورًا داعمًا في نزاع مميت في اليمن ودورًا احتياطيًا للاعبين الصغار في سوريا.. أفسح العالم الأحادي القطب الذي يتخيله المحافظون الجدد الطريق إلى منطقة متعددة الأقطاب – مع إيران، وروسيا، وتركيا، ودول الخليج، والولايات المتحدة، وجميعها مشتركة، بدرجات متفاوتة، في الصراعات – هذا هو البيت الذي بنته حرب العراق. في هذه المرحلة، يمكن للمرء أن يتخيل ما سيكون عليه الشرق الأوسط لو أننا لم نخض هذه الحرب الحمقاء قبل خمسة عشر عامًا. ربما ما زال العراقيون يكافحون ضد دكتاتورهم، لكن مليون عراقي لن يموتوا ولن يتم تدمير مجتمعهم. وسيظل الشعب الإيراني يناضل ضد نظامه، لكن إيران سيتم احتواؤها. بينما لا تزال الولايات المتحدة، وقدرتها على القيادة والهيبة سليمة، في وضع يمكنها من لعب دور بناء أكثر بكثير في الدبلوماسية الإقليمية وحل النزاعات. أنا أكتب هذا لا «لأبكي على اللبن المسكوب»، لكن كملاحظة تحذيرية من أن للحروب الحمقاء (البلهاء) عواقب أجبرتنا على العيش فيها. لذا نحتاج أن نتعلم منهم لكي لا نكون حمقى في المستقبل. * رئيس المعهد العربي – الأميركي في واشنطن تنويه: وجهات النظر والآراء الواردة في هذه المقالة هي آراء المؤلف، ولا تعكس بالضرورة موقف المعهد العربي ـــ الأميركي؛ فالمعهد منظمة غير ربحية وطنية غير حزبية لا تؤيّد المرشحين. د. جيمس زغبي *
مشاركة :