قراءة في ديوان الشاعرة الكويتية هدى أشكناني

  • 12/20/2014
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

تكاد لعبة "الغميضة" أن تندرج ضمن ما يمكن تسميته اصطلاحا بالفطرة الثقافية، حسب رأي الحكيم أوشو. فالعالم بجميع أعراقه وتنوع مكوناته الثقافية وكذلك منذ طفولة أفراده المبكرة، يشترك في مفهوم التواري من جهة، وفي مهمة أخرى يواصل بحثه عن حقيقة ماثلة أمامه ويتعامى عنها بقصدية يحتمها تكوينه الثقافي والأيدلوجي. إنها حقيقة وجوده على هذا الكوكب بما يستتبعها منطقيا من أسئلة من قبيل المآل والمبتدأ، الخير والشر.. وموضع الإنسان وكينونته بعد تجريده من كل تلك المفاهيم وقياس مدى سعادته. ففي اختراق أنثوي لمساحة احتكرها الذكور طويلاً، يأتي الديوان الثاني للشاعرة الكويتية هدى أشكناني "كُنتَ أٓعمى"، ليقرأ الوجود ويعيد تأويله بنظرة نسوية تطال الفكر والفلسفة في اخراج انعطافاتها وهو الوعي البشري. إنها مغامرة البحث عن الضوء.. أحجية ثقافية تهمس الشاعرة من خلال نصوص ديوانها بأن الضوء لا يكمن في آخر النفق، إنما هو ما تراه عندما تنزع قطعة القماش التي تغطي ناظريك، ثم تتجه بفكرك ناحية الحقيقة القابعة في ناحية أخرى لا يتسنى لبصرك استشعارها وأنت تقاد بفكر الآخرين.. لعبة غميمة موجهة هذه المرة. لذلك يصبح العمى في تأويل الشاعرة، ليس باعتباره قدرا وحتمية لا يمكن الخروج منها، فهي كلعبة الغميمة تماما حيث يشترك العمى المؤقت في اللعبة مع العمى الثقافي في قصدية الفعل برمزية "اليد" كما هو المعنى في نصوصها: (العمى: يدان ترسمان عينين في هواء، يتبع طريق الهاوية..). هنا هي تقودنا إلى استكناه ظروف المصاب بالعمى الثقافي بوصفه: (الأعمى الذي أطفأ يديه آخر المساء.. لأنه مثلك مثقل بالمعجزات/ بالخلاص/ الوداع/ اليقين/ الفقد/ الغيم/ السماء/ المشهد/ الدهشة/ السقوط.. أزاح الضباب عن عينيه ومات..). فهذا الموت والذي أتى كنتيجة لفقدان الوعي الثقافي هو ما تشرحه في أحد نصوصها (قلبي مات حسرة، فأصبحت أعمى)، لهذا تستتبع القيامة حادثة الموت، ويأتي الضوء كحقيقة معبرة لفعل الخلاص، فهو نقيض العمى والظلام (خلف النافذة التي تحرسها العتمة.. نحرر البصر الذي نريد، وعلى بياضها نوقظ الغيم، هكذا تحضن السماء غيمتها الثامنة.. كمن أرهقه حلمه الملطخ بالمستحيل.. وهو يعبر صفحة بيضاء ..). في تساوق مع معنى العمى، يأتي الضوء في نصوص هدى أشكناني كحالة فعل قصدي آخر مع فارق مهم وهو أن محاولة الوصول إلى الضوء تحتاج إلى العديد من المرشحات الثقافية؛ لانتقاء الصحيح منه والسماح للأفكار الصالحة فقط بالمرور، وان عدم إمرار الأفكار من خلال هذه المرشحات سيكون مآله العمى كأشعة الليزر تماما، وبالتالي سيعزز من الارتهان إلى الوصاية والانقياد كما يتضح من رمزية اليد (بعدستين معطلتين، تقف منتظرا ألاعيب الضوء وهي تبحث بين قصاصات الفراغ عن يد، اعتزلت وجوه العابرين وأنكرت أحجية الموت التاسعة..). إذن، مسيرة البحث عن الضوء في نصوص الشاعرة هدى، تبدو شاقة بطبيعتها، وكرحلة البحث عن الحقيقة، فهي محفوفة بمخاطر السقوط في العتمة (صعدت.. صعدت.. لأبحث عن نافذة نهار فما استطعت.. هدني ظلي، المتعثر بورق الاعتراف، غزير سقوطك بينهم..). فالسقوط هو ما تخشاه الشاعرة ويؤجج مشاعر الغضب والحسرة فيها، لكنها تعاود الصعود بعد كل سقطة حيث تقتفي تباشير النور القادم من شرفة الضياء التي تقع خلف النافذة (في كل مرة أسقط.. يسقط قلبي مني، في المرة الأخيرة كنت في منتهى هشاشتي، هل بقي من القلب متسع للسقوط..؟. ستبتلع البرودة جسدي وتمنح الموت شكلا يعيد لعيني كل شيء.. الصباح، توازن المطر الأبيض، وضوء يعترش نافذتي). لكن ماذا يكمن خلف النافذة؟ الشاعرة في نص آخر تجيب عن هذا التساؤل بقولها: (خلف النافذة التي تحرسها العتمة.. نحرر البصر الذي نريد، وعلى بياضها نوقظ الغيم، هكذا تحضن السماء غيمتها الثامنة.. كمن أرهقه حلمه الملطخ بالمستحيل وهو يعبر صفحة بيضاء نحو القيامة). عندما أشرنا في البداية إلى الطابع الفلسفي والفكري والذي طبع جميع نصوص ديوان الشاعرة اشكناني، واتخذ ذلك الطابع من ثنائية العتمة والنور كإحالة إلى زوال غشاوة عدم اليقين ومن ثم الوصول إلى الحقيقة، فنحن في الواقع لا نمارس أي تعسف في القراءة والتأويل على النصوص الشعرية، بل هي نفسها من تدفع قارئها في نص يحمل عنوان "مربع أرسطو" إلى التعالق مع هاجسها الفكري؛ لاستكشاف معانٍ جديدة لمفردات مثل المثالية والواقعية، الصدق والكذب.. وهي تصر على تبسيط المعنى وشرح المفهوم إلى درجة تكرار استخدامها للكلمة الشارحة (فمعناه) والتي أعقبت كل مفردة (أن تكون كاذبا فمعناه أن تبيع مبدأك بلا مقابل باسم العدم.. من ذا يفسد صورتك أمامنا..؟!). فعندما يحضر أرسطو تحضر الفلسفة بأوضح صورها، وتدخلنا الشاعرة إلى عالم شعري أنثوي مغاير، حيث تتبدل في هذا العالم هوية الخنساء الشاعرة "بهيباتيا" الفيلسوفة الإسكندرانية، لكن بحلتها الجديدة.. شاعرة كويتية.

مشاركة :