مرّ يوم العيد هادئاً ساكناً. لم يشعر به أصحاب العيد الذين لا يقل عددهم عن 95 مليون نسمة في داخل البلاد. ربما غطّى صخب الشارع على الحدث، وربما أيضاً اعتاد أصحاب العيد أن تمر المناسبة من دون احتفال يذكر. ربما يذكّرهم بما وصلت إليه حياتهم من مشكلات متواترة، أو يقلّب عليهم مواجعهم المتمحورة حول مستوى المعيشة الذي يعاني إجراءات اقتصادية شديدة المرارة، أو يدفعهم دفعاً إلى ما يرفضون الاعتراف به حيث كثرة العيال أفقرتهم، والإنجاب من دون حساب بات عرضة للعقاب. العقاب الذي ظهرت مؤشراته في يوم العيد، ألا وهو «اليوم القومي للسكان» في مصر والذي يوافق في 31 تموز (يوليو)، يشير إلى قرب رفع الدعم عن الطفل الثالث. عضو مجلس النواب أحمد رفعت تحدّث عن أن الدعم بات بوابة للسرقة والفساد، وأن رفعه بدءاً من الطفل الثالث إنما هو إعادة حق للمواطنين الذين يمولونه من جيوبهم. وقال إن التفكير في حرمان الطفل الثالث ومن بعده من الدعم «هو في حقيقة الأمر مساواة في عدالة التوزيع على المواطنين»، وأن «الأسرة المصرية ستظل فقيرة إذا ظل الدعم على الأطفال جميعهم، وسيتحول إنجاب الأطفال إلى تجارة من أجل الإفادة من الدعم والخدمات قليلة الكلفة التي تقدم إلى الأسر بغض النظر عن عدد أفرادها». غالبية أفراد الأسر في مصر لا تشغل بالها كثيراً في مسألة الزيادة السكانية، بل هناك من يعتبرها شأناً خاصاً بالحكومة لا علاقة لهم بها. ومنهم من يدخل في أي نقاش ليشير بأن كل ما يقال عن أن الزيادة تأكل الموارد، أو تستنفد الطاقات أو تبتلع الإنجازات إنما هو محض خيال وأضغاث أوهام. سائق الأجرة الذي كان يستمع إلى الرئيس عبد الفتاح السيسي قبل أيام وهو يتحدّث عن أبرز ما يواجه مصر وفي مقدّمه مشكلة الزيادة السكانية، أبدى امتعاضاً وعبّر عن اعتراض. قال بلهجة الخبير الديموغرافي: «الزيادة السكانية في بلدان العالم المتحضّر نعمة. في الدول الاسكندنافية يشجعون الناس على الإنجاب ويمنحونهم مميزات ويقدمون لهم التسهيلات حتى يبارك ربنا ويزيد عددهم. أما هنا، فنلّوح بالعقاب، ونكرّه الناس في العيال». سائق الأجرة، وهو أب لخمسة أطفال، لا يعترف بما يسمى خصائص السكان، ولم يسمع عن اختراع اسمه ربط الإنجاب بمعدلات التنمية. لكن كل ما سمع عنه هو الدعم المادي الكبير الذي تمنحه الدول الاسكندنافية لمواطنيها لتشجيعهم على الإنجاب، وليس منعه. وقبل أن يمضي قدماً في التأكيد أن الدولة تريد أن تمنع الإنجاب، كان الرئيس يتحدّث على الهواء مباشرة عن أن «الدولة تريد تنظيم النسل وليس منعه»، وأن «على كل أسرة أن تعطي فرصة لنفسها ثلاث أو أربع سنوات بين كل طفل وآخر، وأن «طفلين للأسرة الواحدة كفاية». وكانت كفاية السكان في مصر تسير في شكل إيجابي نسبياً حتى «ثورة يناير 2011». فجهود الدولة للتوعية السكانية واحتواء الزيادة الكبيرة على مدار نحو ستة عقود تبخرت في الهواء. وقبل 53 عاماً، أنشأ الرئيس الراحل جمال عبد الناصر المجلس الأعلى لتنظيم الأسرة. وقال في خطاب ألقاه في مناسبة الذكرة الـ14 لثورة تموز (يوليو): «إذا كنا وصلنا في زيادة السكان إلى أكبر نسبة في العالم، الباكستان أكبر نسبة وإحنا نمرة ٢، والزيادة ٢.٧، والإحصاء الأخير قال إن مصر زاد تعدادها على ٣٠ مليوناً، ومعنى هذا إن إحنا كل سنة هنزيد مليون. طيب هنوكل المليون دول منين إذا لم نعمل؟ يعني لازم نعتمد على نفسنا». وقد تبنّت مصر في تلك السنوات مشاريع ما سمي بـ «تنظيم الأسرة»، بعد ما اعترض الأزهر على مصطلح «تحديد النسل». كما راجت عبارة «أسرة صغيرة مستقبل أفضل»، ونجم عن تلك الجهود نجاحاً مشهوداً. واستمرت الجهود في عصر الرئيس الراحل أنور السادات، الذي أشار غير مرة إلى أن معدلات الزيادة لا تزال مرتفعة. وقال في لقاء مسجل أن مصر تستقبل كل سنة مليون نسمة تنضم إلى الملايين التي تستخدم المرافق ذاتها، وتحتاج إلى مدارس وجامعات وفرص عمل. وسار على النهج عينه الرئيس السابق محمد حسني مبارك الذي تحدّث مرات عن أن الزيادة السكانية تبتلع جهود التنمية وإنجازاتها. والوحيد الذي خرج على نهج الدولة المصرية الحديثة، ومال إلى اعتبار زيادة السكان رزقاً من السماء، ومصدر فرح حيث يأتي العيل (الصغير) برزقه، كما يشاع بين البسطاء وفي الريف والمناطق الشعبية والعشوائية، كان الرئيس السابق محمد مرسي. فقد اعتبر زيادة عدد السكان قيمة مضافة، وأنه شخصياً يرحّب بها، لأنها ثروة قومية ولأن «العالم يفرح بزيادة السكان» و «الله موكل بالرزق للجميع». وذهب إلى حد ربط الرزق بالتقوى داعياً ملايين المصريين إلى المضي قدماً في التقوى والإنجاب «إلى ما لانهاية» على حد قوله في لقاء تلفزيوني. وكلل هذا التشجيع انفلات جهود تنظيم الإنجاب في أعقاب ثورة يناير، ولتمضي القنبلة السكانية قدماً إلى مرحلة الانفجار الفعلي. يقول خبير السكان ودراسات الهجرة الدكتور أيمن زهري في «ورقة» عنوانها «الديموغرافيا الخطرة: سكان مصر في القرن الـ21» أن المتتبع لمعدلات المواليد ومعدّل الخصوبة الكلي في مصر يلاحظ أن معدّل المواليد انخفض من 6.50 في الألف من 1950 إلى 1955 إلى 2.25 في الألف من 2005 إلى 2010، ليعاود الارتفاع ويصل إلى 5.28 في الألف من 2010 إلى 2015. وهي الفترة التي واكبت الحراك السياسي الذي بدأ في 25 كانون الثاني (يناير) 2011». ويعزو زهري هذا الارتفاع إلى تأثر الخدمات الخاصة بالصحة الإنجابية وتنظيم الأسرة بسبب عدم الاستقرار السياسي وانتشار القيم المناهضة للأسرة الصغيرة وتمكين المرأة. ويرى أن ما طرأ على المجتمع المصري من تغيّرات جذرية بدأت في سنوات حكم الرئيس السادات ساهمت في شكل كبير في مرحلة الانفجار السكاني الراهن. فسياسة الباب المفتوح الاقتصادية أثرت في الطبقة الوسطى سلباً. كما أن تخلّي الدولة عن سياسة تشغيل المتخرجين دفع بملايين إلى السفر بغرض البحث عن فرص عمل أفضل، وتزامن ذلك ونشوء الدولة «شبه الدينية» حيث أطلق السادات العنان للجماعات الإسلامية بغرض مواجهة الناصريين والشيوعيين. كما عادت العمالة المهاجرة بثقافة غير مصرية تميل إلى الأسر كبيرة العدد من دون النظر إلى خصائص السكان والقدرة على التربية والتنشئة والتعليم الجيد. كما عاد بعضهم إلى اعتماد تعدد الزوجات باعتباره أمراً محموداً. ويضيف أن مكانة المرأة المصرية أخذت في الانخفاض، وتحوّلت عند فئات كثيرة إلى بوتقة للحمل والإنجاب. وفي ظل عودة جهود الدولة لضبط الزيادة السكانية، وتواتر الحديث عن ابتلاع المواليد المنافسين للأرانب في الكثرة لأي ملامح تنمية، واستمرار الخطاب الديني الرجعي خلف الأبواب المغلقة عن حرمانية التنظيم والتأكيد أن «العيل يأتي برزقه»، تواجه مصر تحدّياً مضاعفاً. فالأمر لم يعد يتطلّب فقط عودة عيادات تنظيم الأسرة، وحملات التوعية بأخطار الإنجاب من دون حساب، ولكن باتت هناك حاجة ماسة لإزالة طبقات الغبار الفكري وإصلاح التحريم الديني الذي لا يزال يرتع بعيداً من الأعين مخلّفاً ملايين المواليد الذين يأتون من دون تخطيط لمستقبلهم أو تفكير في مصير البلاد. يقول زهري: «في ظل تلك الهجمة الشرسة لا يمكن لبرامج تنظيم الأسرة التقليدية أن تنجح، إذ لا بدّ أن نعود إلى النهج التنويري الحداثي الذي ساد مصر في ستينات القرن الـ20 مع الأخذ في الاعتبار المستجدات في عالم الاتصالات والمعلومات والعمل على ترسيخ القيم الأصيلة، والارتقاء بمكانة المرأة لتتحوّل مجدداً من وعاء للمتعة وإنجاب الأطفال إلى مواطن كامل المواطنة من خلال الاهتمام بالتعليم والثقافة، ومشاركتها الكاملة في مناحي الحياة كافة».
مشاركة :