لمصلحة من التشكيك في الرابطة العربية؟

  • 8/8/2018
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

من مظاهر التدهور في الفكر السياسي وفي القيم السياسية، ومن أوجه النكوص عن الثوابت العربية، تلك النبرة العالية المتشنجة التي تطل علينا صباحا مساء للتعبير عن عدائها الكامل لكل ما هو عربي، حقيقة او مجازا، الى درجة التطابق مع المعجم المعادي للعرب والعروبة (أو ما بقي منها)، عن قصد أو من دون قصد. والعمل على التشكيك في الرابطة العربية-هوية ووجودا-والتشجيع على تضخيم الهويات الجزئية، أو البحث عن افق ارتباط خارج ذلك. وربما يكون هذا التشظي في الفكر أو الخروج عن السياق في الرؤية من أشد الأخطار التي تتهدد المجتمعات العربية، سواء على صعيد الوحدة الوطنية، من حيث السعي وراء كل ما هو الطائفي، أو من حيث البحث خارج الأفق العربي والرابطة العربية عن هويات ما فوق عربية، تتعلق بأهداب بعيدة وغير واقعية، بل وتدخل في منظور متناقض مع المصلحة الوطنية والأمن القومي العربي بكل أبعاده. وهذه النزعات تتخذ ألوانا سياسية وطائفية متعددة، ولا يتصف بها طرف سياسي او طائفي دون غيره. وما زلت أذكر -في هذا السياق- تلك الفزعة التي أثارتها قبل سنوات قليلة تلك الدعوة النبيلة إلى الاتحاد الخليجي، وهي الفزعة المتزامنة في إيقاعها بين الداخل والخارج المعادي لمجرد فكرة الاتحاد، وما جري وقتها من جدل حول هذه الهستيريا وتصاعد نبرات التنكر من بعض الجماعات السياسية التي تستكثر حتى وصف الخليج بكونه عربيا.  وأذكر خلال الجدل الإعلامي مع احد الأصدقاء أنه علق على ما كتبت وقتها، واصفا هذه الفزعة المريضة بكونها (معادية للذات)، متسائلاً: «قد لا يعرف الإنسان خصمه.. لكن هل يجهل الإنسان اسمه وهويته؟؟». وبالرغم من ان تلك الدعوة النبيلة قد خف صوتها في زحمة الأحداث الجسام التي مرت بها المنطقة، فإن أصوات هؤلاء المتصايحين المتباكين عن السيادة الوطنية التي سيبتلعها الاتحاد الخليجي (أو أي اتحاد يجمع العرب جزئيا او كليا) هم أول من باع هذه السيادة في سوق البورصة، لأنهم لا يهتمون كثيرا لثوابت الهوية العربية ويعيشون على وهم الكثرة في ظل ما يرددونه يوميا بأنهم «الشعب» والشعب هم، في حين لو أنهم كانوا مع الشعب حقيقة لا مجازا، لأدركوا أن الشعب مع الاتحاد ومع العروبة، وضد الارتباط بما هو مناقض للهوية، كما انه ضد وهم الارتباط بإيران الخمينية، لأنه يعلم علم اليقين من تكون إيران وماهية نظامها وعنصريتها وكرهها لكل ما هو عربي جملة وتفصيلا. إن هؤلاء المتقلبين بين يسار ويمين، بين العروبة ونقيضها في موضوع الاتحاد، وفي غير الاتحاد، ولكثرتهم لم نعد قادرين على التمييز بين الأحمر منهم والأسود والأبيض، فقد ساحت الألوان على بعضها البعض، وتحولت إلى بانوراما إيديولوجية سريالية. ونحن هنا لا نتكلم عن شخص واحد أو حتى عن عدة أشخاص فقط، وانما عن جماعات كاملة تتغير مواقفها من النقيض إلى النقيض، خلال أيام معدودات. وبالفعل، فقد مرت السنون فرأينا العديد من الأفراد وحتى الجماعات التي كانت من «صفوة» اليساريين في الستينيات، وفي مقدمة الديمقراطيين في السبعينيات، تتحول بقدرة قادر إلى صفوف الإسلاميين، واليوم هم طائفيون حتى النخاع، لا يظهرون إلا في القنوات المعادية والتي تزعق ليلا نهارا، ضد العرب والعروبة. الحوار وما أدراك ما الحوار: لا أعتقد أن هنالك من يشك في أهمية وحتمية الحوار الوطني وضرورته في كل وقت لتعزيز استقرار الوطن ووحدته ونمائه وتعايش أطيافه، لأن البديل عن الحوار هو الجمود المفضي إلى المزيد من الشحن والمواجهة واتساع الشقة بين مختلف الأطراف السياسية، وهو بهذا المعنى حتمي، وكلما بدأنا به كان أفضل، وكلما تأخر اتسعت مساحة الصعوبات. ورغم التعبيرات الإعلامية والسياسية المتطرفة من هنا وهناك، والتي تحول حالياً دون اتضاح الرؤية والمساحة المشتركة التي تجمع أبناء الوطن، فإن أي معالجة للأمر، لا يمكن في النهاية إلا أن تكون معالجة سياسية ابتداء، وتوافقية بالضرورة، ومهما تعقدت أطوارها ومهما تباعدت الشقة بين مكونات المشهد السياسي الوطني فلا خيار إلا الدخول في فضاء المصارحة والمحاورة والمعالجة السياسية، إذ يظل الحوار عملاً يومياً دؤوباً حتى داخل الحزب الواحد، فما بالك بين الأحزاب والقوى السياسية فيما بينها وبين الاخرين.. والمنطق يقول إن كل من يؤمن بالحوار وجدواه، ويؤمن بالشرعية وبالثوابت الجامعة وبالأطر القانونية والدستورية يفترض أن يكون جزءًا من هذا الحوار المنشود. ولا شك أن مثل هذا الحوار يتطلب، بداية، عقد العزم على المضي قدماً نحو تلك المحطة الحتمية، فبالإمكان في النهاية إنجاز الحوار استناداً واعتماداً على المكونات الرئيسة والفاعلة وإن تخلف عنه المتطرفون من هنا وهناك. كما يقتضي إيجاد سبيل مناسب لهيكلة هذا الحوار، وتحديد أجندته وموضوعاته وأولوياته وخطوطه الأساسية، ضمنن افق حده الأول الالتزام بالثوابت الجامعة وبالقانون والدستور، والعمل على تعزيز التجربة الديمقراطية في ظل دولة مدنية وطنية يتساوى فيها المواطنون في الحقوق والواجبات، في سياق الحرية المسؤولة مع ان هذه الحرية متوافرة بالشكل الذي يحقق الهدف من الديمقراطية التي تتطلّب توافر الحريّة تلقائياً، ولا عجب فإن أي ديمقراطية حقيقية في الانتخابات تستدعي أن يكون المواطن حرّاً في خياراته وتطلعاته وطموحاته، لكن هذا الأمر ليس متاحاً للجميع بحكم سيطرة قوى الهيمنة الدينية والطائفية الضاغطة والقامعة للحرية، وليست الدولة هنا هي التي تضغط وإنما السلطة الطائفية الطامحة إلى المزيد من التأثير والسيطرة والقيادة هي التي تضغط وتضع قيوداً أمام أمرين أساسيين؛ مدنية الدولة وعلمنتها على وجه الدقة، وهي شرط لبناء المجتمع الديمقراطي، والحرية التي هي أساس الديمقراطية وعمودها الفقري وبدونها لا مجال للتقدم على صعيد حرية المواطن الذي يختار ممثليه ويحاسب المسؤولين بعيداً عن أيّة ضغوط أو قداسة من أي نوع كان. إن الحوار يكون بالضرورة مجردا تماما من العنف، وهو الذي يتم داخل المؤسسات، حتى لا تكون مخرجاته محل شك او منازعة في شرعيتها، كما أنه يقتضي وجود سياسيين محترفين وطنيين وعقلاء، تحدوهم المصلحة الوطنية العليا واستقرار البلاد ونماءها وسلمها الأهلي. وذلك لان هذا السياسي وحده من يمتلك من الوعي اللازم، بما يجعله مدركا للعواقب ولشروط العمل السياسي وحدوده، ومؤمنا بضرورة الوصول إلى الحلول الممكنة، ومستعدا للتراجع عن المواقف الخاطئة عندما يتبين خطؤها، أو عندما يتبين أن المصلحة الوطنية تقتضي التنازل أو التراجع...

مشاركة :