الرياض إلى أين تتجه إيران بعد الدفعة الأولى من العقوبات الأمريكية التي فرضت عليها؟ ربما تكون السخرية تكمن هنا في أن السؤال مثار اهتمام لأنصار نظام الملالي في إيران، ومثار اهتمام خصوم النظام أيضا، لكن الأكثر سخرية هو أن الانصار والخصوم يتفقون على ذات الإجابة، باختصار الأوضاع الاقتصادية ستزداد سوءا حتما. ربما يكمن خلاف الطرفين في أن النظام وأبواقه، يسعون إلى إقناع شعب آخذ في الثورة والتمرد على قبضة حديدية دامت لأربعة عقود، بأن الأزمة عابرة وستترك بصمات سلبية في الأجل القصير، لكن في الأجل الطويل ستنتصر الثورة وأنصارها حتما، وكل ما في الأمر أن يواصل الشعب تضحياته من أجل قادته، وأن ينسى رجال إيران ونساؤها آمال أطفالهم وآلامهم ويلتفون حول المرشد الأعلى للثورة، للبرهنة للولايات المتحدة والبيت الأبيض على أن النظام سيواصل تصدير ثورته وإهدار ثروته. على الضفة الأخرى يقف الخصوم الذين تروج القيادة الإيرانية لشعبها منذ عقود أنهم جيران لا يريدون الخير لبلادهم، ولسنوات أوهم نظام الملالي العالم بأن شعبه ملتف حوله ويتبنى أيديولوجيته ونظريته في تصدير الثورة. 40 عاما والنظام يتصور – بالحق أو بالباطل – صلابة موقفه وشعبيته، ليكتشف خلال أيام أن الشعب يدرك الحقيقة، ويدرك أبناء إيران أن الجيران لا يريدون إلا الخير لشعب يجاورهم وسيجاورهم لقرون طويلة مقبلة، خير يتمثل في رفع مستوى معيشته، وعدم استنزاف ثرواته في مغامرات يعلم القاصي والداني أن مصيرها الانهيار، والحفاظ على أبنائه من الهلاك في أراض غريبة، دفاعا عن طغاة لا يتحدث لغتهم، ولا يتبنى عادتهم، ويدرك أكثر من غيره مدى الظلم والحيف الذي ألحقوه بشعبهم. وفي تلك المحنة الإيرانية يبدو خصوم النظام أنصار الشعب أكثر واقعية، فالاقتصاد لا يعرف لغة المشاعر والأحاسيس ولا يوجد فيه مجال للتمنيات أو الأوهام والأحلام، ولا يفهم إلا لغة الأرقام والمعادلات. باختصار إيران فرضت عليها العقوبات الأقصى في التاريخ كما وصفها الرئيس دونالد ترمب، قد تدعي أنها صمدت لسنوات لعقوبات مماثلة، لكنها لا تكمل الجزء الآخر من الصورة، بأي تكلفة اقتصادية؟ الاقتصاد الإيراني قبل فرض العقوبات كان في حال مزرية، وعلى الرغم من رفع العقوبات في أعقاب الاتفاق النووي المعيب الذي وقعه الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما مع إيران، فإن الوضع الاقتصادي لم يحدث فيه تغيير جذري ينعكس بشكل حقيقي على مستوى معيشة الإيرانيين. وربما يكون تدهور قيمة العملة الإيرانية بشكل حاد، والمظاهرات التي اجتاحت الشوارع وجميعها حدثت قبل فرض العقوبات الأمريكية مجددا، خير دليل على أن الضغوط الاقتصادية كانت حادة قبل فرض العقوبات، التي من المؤكد أنها ستجعلها أسوأ. ويوضح لـ "الاقتصادية"، الدكتور بن سيدرك أستاذ التنمية الاقتصادية، أن"الدفعة الأولى من العقوبات الأمريكية على إيران مؤلمة للغاية، أما الدفعة الثانية التي ستدخل حيز التنفيذ في الرابع من تشرين الثاني (نوفمبر) وتستهدف صناعة النفط التي يعتمد عليها اقتصاد إيران بشكل كامل فستكون مدمرة تماما". ويضيف سيدرك أنه "بالنسبة إلى الدفعة الأولى فإنها ستجعل أحلام التنمية الإيرانية تتآكل وتذهب أدراج الرياح، إذ إنها ستضرب بعضا من أبرز القطاعات الصناعية غير النفطية التي كانت تراهن عليها طهران لأسباب اقتصادية وسياسية، وأعني تحديدا قطاع السيارات أحد أكبر قطاعات التصنيع، وكانت إيران تأمل عبر تعاونها مع شركات دولية وتحديدا شركة "رينو" الفرنسية في إنعاش هذه الصناعة، وتلبية احتياجات الأسواق المحلية، وبالتالي إشباع بعض رغبات الطبقة المتوسطة، وتخفيف الضغط السياسي والاجتماعي نتيجة وضعية الحرمان التي تصيب الطبقة المتوسطة الإيرانية منذ سنوات، كما أن ازدهار صناعة السيارات والتصدير إلى بعض الأسواق المجاورة وبلدان وسط آسيا وإفريقيا، كان سيضمن التخفيف النسبي من أزمة العملة الأجنبية وتنويع مصادر الدخل". وربما تشهد إيران في المرحلة المقبلة تغيرات ملحوظة في الطاقم الفني المعنى بالسياسات المالية، إذ يبدو أن إلقاء البنك المركزي باللوم في تدهور الوضع الاقتصادي على ما يسميه مؤامرة من جانب أعداء النظام لمفاقمة الأزمة الاقتصادية قد باء بالفشل، وأسفر في نهاية المطاف عن إلقاء القبض على الرجل الثاني في البنك المركزي في إطار البحث عن كبش فداء لإخفاقات النظام. فريان جيري الباحث الاقتصادي يعتقد أن "المشكلة الاقتصادية الإيرانية بالكاد هي خطأ الجهات الأجنبية، وأن تصرفات إيران منذ توقيع اتفاق أوباما النووي هي ما جرت على الإيرانيين استعادة العقوبات مجددا، فهي تخوض حربا باهظة الثمن في سورية، وتمول حربا بالوكالة في اليمن، وتسلح وتمول حزب الله اللبناني، والميليشيات الشيعية العراقية، وغيرها من التنظيمات الإرهابية في الشرق الأوسط، بالطبع تلك الأنشطة التوسعية لا تتم مجانا، إنما هي أنشطة توسعية ذات طابع عدائي مكلفة للغاية، وتلك الأنشطة لم يستفد منها الشارع الإيراني، إنما كبار رجال الحرس الثوري الذي يعد رأس حربة النظام لتصدير الثورة، ونتيجة الإهدار الكثيف للموارد الاقتصادية الإيرانية، المترافق مع سوء إدارة الاقتصاد، والفساد المستشري، وتمتع رجال الدين بسلطة مطلقة مكنتهم من امتلاك ثروات ضخمة تم تهريب جزء كبير منها إلى الخارج، وهذا كله مهد الطريق للانهيار الاقتصادي الإيراني، الذي سيتسارع مع فرض المرحلة الثانية من العقوبات الأمريكية". وربما يتمثل المأزق الناجم عن الجولة الأولى من العقوبات الأمريكية، في أنه يضع أسس إضعاف القدرة التصديرية لإيران مستقبلا. وعلى الرغم من عدم استجابة الأوروبيين اسميا فقط للعقوبات الأمريكية، إلا أنه واقعيا فإن الشركات الأوروبية وقبل الوصول إلى المرحلة الثانية من العقوبات ستكون قد حسمت موقفها وانسحبت من أي مشاركة حقيقية في الاقتصاد الإيراني، فما يمكن أن يقدمه الاتحاد الأوروبي والصين وروسيا إلى إيران لن يكون كافيا لمواجهة أي تأثير معاكس نتيجة الموقف الأمريكي. ويقول لـ "الاقتصادية"، إيان هيوج الاستشاري الأسبق في البنك الدولي "إن إيران في أعقاب تلك العقوبات لن تستطيع مواصلة أنشطتها التجارية مع العالم الخارجي، بطريقة تجعلها قادرة على البقاء خارج نطاق الركود الاقتصادي، وهذا يعني أن النظام الحاكم في طهران سيكون عليه الاختيار بين مواصلة مؤامراته ومغامراته الخارجية عبر تمويلها من الاحتياطات المالية الإيرانية، أو عبر استنزاف قليل من العملات الأجنبية التي يحصل عليها من تجاراته الخارجية المتراجعة ومن عمليات التهريب الدولي". ويضيف هيوج أن "معدلات التضخم والبطالة سترتفع حتما، وسيتسع نطاق المواجهات بين الشعب والنظام، وهذا لا يعني أن النظام سينهار سريعا، فآلية القمع الداخلي لا تزال شديدة القسوة في إيران، ولا يزال النظام يمسك ببعض الأوراق والحيل السياسية مثل الإطاحة بالرئيس روحاني بدعوى فشل الحكومة في إيجاد حل للمشكلات الاقتصادية، وقد يفلح في مد حبال بقائه بعض الوقت، لكن الانهيار المتواصل في القدرة الشرائية للعملة الإيرانية، وزيادة عدد الفئات الشابة الواقعة تحت خط الفقر، سيدفع إلى حالة من التمرد الداخلي التي ستسفر حتما إلى خلخلة النظام من الداخل".
مشاركة :