اجتمع بعض الأدباء والمثقفين من أنيقي العقول والهيئات ذات مرة في مجمع اللغة العربية بدمشق، وقرروا ابتكار كلمة تليق بما يجري في العالم، فركبوا كلمة “تقانة” لتشمل مقطعين من اللغة اليونانية؛ البادئة “تكنو” والتي تعني الفن أو الصناعة، واللاحقة “لوجيا” والتي تعني “علم”. وأعلنوا أن كلمة “تكنولوجيا” لا تعني أسلاكا ولوحات وأضواء وشاشات بالمرة، وإنما اختاروا لها المعنى التالي “الاستخدام الأمثل للمعرفة العلمية وتطبيقاتها، وتطويعها في خدمة الإنسان ورفاهيته”. ومنذ ذلك الوقت لا يتذكر كثيرون أن هذا هو المعنى الحقيقي لكلمة “تكنولوجيا” في الذهن العربي. إن إفقاد الراهن قدرته على إشباع رغبة البشرية في العيش، استراتيجية يمكن لأي قط أن يلعبها ويطبقها على فئران صغيرة في شقّ بجدار. ولكن، ومن الجهة الثانية، فإن فقدان الضحية لتلك الرغبة في العيش وأن يكون لذلك العيش معنى لائق، هو فعل ذاتي الإرادة يصدر عن الضحية ذاتها، لا يتضمن فقط الاستسلام لمشروع القط، بل الاستمتاع به. ومنذ أن تحوّل العالم إلى صيغته المشهدية الحالية، بات على الممثلين جميعا على الخشبة، أن يتقنوا أدوارهم بشكل أفضل. فهناك كاميرات ذات دقة عالية تصوّر، وميكرفونات حساسة ترصد الأنفاس. لكن التقنيات الأخرى لم تتطور بالسرعة ذاتها. فهناك فوق الآلات الذكية آليات يجب أن تواكبها، مثل النظم المجتمعية والقوانين والقيم والأخلاقيات التي صارت خلفنا الآن. ويبدو أنك كلما أردت التقاط لحظة إنسانية قادمة، ستتوجب عليك العودة عشرات الآلاف من السنين لفهم اللحظة الإنسانية ذاتها. إذ يقول علماء الأنثروبولوجيا إن النوع الإنساني الحالي استطاع أن ينجو من عصور جليدية قاسية منذ عشرات الألوف من السنين باستعماله “الحربون” وهو نوع من الرماح السهمية التي صنعها لاصطياد السمك تحت الجليد. وتلك كانت حينها “تقنية”، بينما فشلت أنواع أخرى في النجاة. لأنها كانت تعتمد بشكل كبير على اصطياد الحيوانات التي انقرضت بدورها بسبب الجليد، فانقرض النوع البشري الذي كان يأكلها. لذلك فقد أدرك أسلافنا الذين نتحدر منهم أنهم لن يتمكنوا من فعل شيء بعضلاتهم وحدها، بل بفضل ذكائهم واعتمادهم على “التقنية” قد يتمكنون من النجاة من الكوارث. وهذا ما دفع العالم باتريك دانين إلى أن يطلق على الإنسان الحالي تسمية “هوموتكنولوجيا” بدلا من “هوموسابين”، حسبما ذكرت مجلة “نيو أتلانتيس”. وبشكل أو بآخر تمكن العصر الحالي، الذي إن قورن بالعصور الكارثية القديمة للإنسان فسيبدو حربا عظيمة باردة أو عصر انقراض بالسرعة البطيئة، من أن يجعل حياة الإنسان ورفاهيته وسيلة لنجاة المنتجين، لا حقّا أساسيا للمستهلكين. وفي هذا تكرار جديد للصيد تحت الجليد.
مشاركة :