أحتفظ بعدة كتب عن أم كلثوم، بين سيرة شخصية وفنية، وتوثيق نصوص الأغاني وأسماء المؤلفين والملحنين ونوع المقام وتاريخ الأغنية ونوع القالب الغنائي. وأفرق بين ملحن وآخر بمجرد بدء المقدمة الموسيقية، قبل أن تنهض «الست» وتستأثر بالجمهور. وكنت أجد صعوبة في نسبة «أنساك» (1961) إلى بليغ حمدي، حتى كتبت سناء البيسي في الأهرام، في 4 أغسطس 2018، أن الشيخ زكريا أحمد ملحن الأغنية، «فقد تسربت لفترة الإشاعة المجحفة لتكبر وتغدو كحقيقة لها ثبوت السرد العادي من أن بليغ حمدي قد أدخل إضافاته الموسيقية على لحن ‘أنساك يا سلام’ إلا أن أم كلثوم أكدت في حياتها أنها خالصة له». مفاجأة تستدعي تاريخا من اختلاط الأنساب، وقد يمر زمن قبل اجتهاد باحث في المقارنة والمراجعة، والجرأة على التصريح بما يعتقد أنه حقيقة. ولثمانية قرون احتكر العماد الأصفهاني المقولة الشهيرة «إني رأيت أنه لا يكتب إنسان كتابا في يومه، إلا قال في غده لو غُيّر هذا لكان أحسن، ولو زيد كذا لكان يستحسن، ولو قدم هذا لكان أفضل، ولو ترك هذا لكان أجمل. وهذا من أعظم العِبر، وهو دليل على استيلاء النقص على جُملة البشر»، إلى أن تشكك فيها محققون لم يجدوا لها أثرا لدى الأصفهاني، ورجحوا أنها لكاتب مجهول اسمه العسقلاني أرسل إلى الأصفهاني رسالة اعتذار بدأها قائلا «إنه قد وقع لي شيء، وما أدري أوقع لك أم لا؟ وها أنا أخبرك به، وذلك أني رأيت أنه لا يكتب إنسان كتابا في يومه، إلا قال في غده لو غُيّر هذا لكان أحسن.. إلخ». ولم يكن محمد عمارة، محقق الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده، بحاجة إلى ثمانية قرون لكي يكتشف أن فصل «حجاب النساء من الوجهة الدينية» في كتاب قاسم أمين «تحرير المرأة» الصادر عام 1899، «من الفصول التي حققنا نسبتها إلى الأستاذ الإمام». الالتباس في نسبة عمل إلى غير صاحبه يحدث أحيانا بإغراء يستبدل فيه شخص منافع عاجلة بفائض موهبته. ويوسف إدريس اعترف في كتابه «البحث عن السادات» بأن السادات حين كان رئيسا لمجلس إدارة صحيفة «الجمهورية» أعجب به «ككاتب إلى درجة أنه عهد لي بكتابة عموده اليومي الذي كان يشكل افتتاحية الجمهورية موقعا باسمه… ظللت أعمل مع السادات حتى نقلني تماما من وزارة الصحة إلى المؤتمر الإسلامي لأتفرغ لكتابة ثلاثة كتب تحمل اسمه واعتبرتها مهمة وطنية عليا إذ إن أحدها كان عن حرب السويس الوطنية والعدوان الثلاثي، وقع في خمسمائة صفحة وترجم ونشر باسم السادات في دار نشر هندية وزعته بالإنجليزية على العالم أجمع». حين تشتهر أغنية منحت أحد الأثرياء وجاهة اجتماعية، يجن كاتبها الحقيقي ويكشف المستور؛ استردادا لشهرة فاتته. ولكن زكريا أحمد (1896ـ 1961) لا تنقصه شهرة، فرصيده يزيد على 1350 لحنا لأغنية ودور وأوبريت وقصيدة منها «يا بعيد الدار» للعباس بن الأحنف. راجعت الأعمال الكاملة لأم كلثوم، وهي 100 شريط اشتريتها منذ 15 عاما، وتنسب اللحن إلى بليغ، وكذلك قالت رتيبة الحفني في كتابها «أم كلثوم». أما كتاب «أم كلثوم»، في موسوعة أعلام الموسيقى العربية من إعداد إيزيس فتح الله ومحمود كامل، فسجل أن الشيخ زكريا أحمد لحن المقدمة والمطلع «ولم يمهله الموت لإكمالها». في الموسوعة نفسها، أوردت إيزيس فتح الله في كتاب «زكريا أحمد» نص الأغنية، وأنها من ألحانه. وبالعود إلى زمن الأغنية، نشر في الأهرام للشاعر صلاح جاهين كاريكاتير بتعليق ينفي أن يكون اللحن لبليغ «أنساك يا سلام يا بليغ ده كلام أهو ده اللي مش لحنك أبدا أبدا».
مشاركة :