دأب النظام الإيراني منذ عام 1979 على تصدير الثورة والتدخل في شؤون دول الجوار، ومطالبتها بعدم انتهاك حقوق الإنسان، في حين أن ما يحدث في إيران يفوق كل الحدود من انتهاكات وقتل وظلم، فهي تشهد منذ ديسمبر الماضي موجة من الاضطرابات السياسية، عمت معظم أرجاء البلاد، معبرة عن أزمة داخلية حقيقية تعيشها، أساسها تردي الأوضاع الاقتصادية، وسوء الأحوال المعيشية، وانهيار قيمة العملة، الأمر الذي وضع الاقتصاد على حافة الهاوية، وخاصة بعد أن فشل «روحاني» في الوفاء بوعده بالازدهار الاقتصادي، بعد توقيع «الاتفاق النووي»؛ والفشل في إنهاء عزلة بلاده، وجلب الاستثمارات الأجنبية، وزيادة فرص العمل. وتعتبر إيران بمعايير الموارد الاقتصادية دولة ثرية، إذ تملك نحو10% من احتياطات البترول في العالم، وثاني أكبر احتياطي للغاز الطبيعي، وآلاف المناجم التي تدر عوائد ضخمة، ومع ذلك فالأوضاع فيها تسير -منذ قيام الجمهورية الإسلامية- من سيئ إلى أسوأ؛ نتيجة الفساد وسوء توزيع الثروة وسيطرة الحرس الثوري على اقتصادات البلاد، حيث يعيش حوالي 11% - 16% من سكانها في منازل مصنوعة من الصفيح. وكانت مؤسسة «بورغن» الأمريكية، قد كشفت في سبتمبر 2017 أن «تزايد نسبة الفقر قد وصل إلى مستويات قياسية في ظل استشراء الفساد الحكومي وهيمنة الملالي على ثروات البلاد»، كما أشارت بعض التقارير إلى أن 13 مليون إيراني يقبعون تحت خط الفقر، وارتفع المعدل الرسمي للبطالة من 10.6% عام 2014 ليصل إلى 25% في 2017. وتفيد إحصائيات وزارة العمل الإيرانية بأن هناك أكثر من 12 مليون مواطن يعانون من المجاعة، وأكثر من 60% لا يستطيعون إيجاد توازن بين دخلهم ونفقاتهم. هذا، وتضع منظمة الشفافية الدولية إيران على رأس قائمة الدول الأكثر فسادا، وتحتل المرتبة 136 من أصل 175 دولة. ويعتقد خبراء أن جذور الفساد في إيران يعود إلى هيمنة المؤسسات الدينية والجماعات المرتبطة بأعلى هرم النظام، ومنها التابعة للمرشد الأعلى «ضعلي خامنئي»، والتي تستحوذ على جزء كبير من الاقتصاد ولا تخضع لأي رقابة. وكانت صحيفة «وورلد نت ديلي» الأمريكية قد ذكرت أن «الميزانية المخصصة للحرس الثوري، قد بلغت 6.9 مليارات دولار عام 2017»، كل ذلك في محاولة من النظام لرسم خريطة للمنطقة تخدم أجندته الطائفية حتى لو دفع الشعب الإيراني فاتورة ذلك. ومن ثمّ، لم يكن غضب الإيرانيين من تردي أوضاعهم، إلا نتيجة لسياسات النظام، وتدخلاته في شؤون دول المنطقة، بعد أن وضعت هدف تصدير الثورة دستورًا لها، وقامت بتكوين ودعم المليشيات والأحزاب والخلايا النائمة التي تنفذ إراداتها، وسعت لفرض هيمنتها الإقليمية، وتكريس موارد الإيرانيين لهذا الغرض، وهي الحقيقة التي أيقنها المحتجون، فهتفوا رفضا لها. وإذا كانت الأوضاع الاقتصادية متردية، فإن الأوضاع السياسية والحقوقية ليست أفضل حالا. وبشكل عام، تأخذ انتهاكات حقوق الإنسان في إيران أشكالا عدة منها؛ تزايد حالات الإعدام، والتضييق على الصحفيين وحبسهم، وفرض قيود على مواقع التواصل الاجتماعي، بالإضافة إلى انتهاك حقوق الأقليات، والمرأة، ومصادرة حرية الرأي والتعبير، كما أن سجون إيران مكتظة بكل فئات الشعب من سياسيين وصحفيين وطلاب وناشطين ونساء وأطفال. ووفقا لتقارير دولية صادرة عن الأمم المتحدة عام 2016، احتلت إيران «المرتبة الأولى» في الإعدامات بحسب عدد سكان البلد، و«المرتبة الأولى» في إعدام الأطفال، تبعا لـ«منظمة العفو الدولية»، و«المرتبة الثانية» في عدد الإعدامات في العالم، بحسب «مراقبين دوليين». وفي إجراء مضاف للقيود على الإنترنت، حجبت مواقع التواصل الاجتماعي. فيما يحتل التمثيل الإجمالي للإيرانيات في المجالس المحلية والبرلمان نسبة ضعيفة، ما جعلها تحتل المرتبة 177 من 193. بحسب تقرير الأمم المتحدة حول مشاركة المرأة في الحياة السياسية لعام 2017. وفي هذا الصدد يقول «رضا ماراشي»، من المجلس القومي الإيراني الأمريكي: «إن هذا الأمر يرجع إلى سنوات من شعور الإيرانيين بالظلم السياسي والاجتماعي». وهو ما أكده «رضا نادر»، الباحث في مؤسسة «راند» الأمريكية، من أن «المواطنين فقدوا ثقتهم في روحاني، وينظرون إلى الحكومة باعتبارها فاسدة للغاية». وإيران شأنها شأن العديد من دول العالم، مجتمع تعددي، بل إن إجمالي عدد أبناء هذه الأقليات معًا يبلغ نحو نصف سكان إيران، فأكبر قومياتها من غير الفرس، هي الأذرية، والتي يبلغ عددهم قرابة 24 مليون نسمة، فيما يبلغ الأكراد نحو 11 مليونا، والعرب 5 ملايين، والبلوش 3 ملايين، والتركمان مثلهم، فليس كل سكان إيران إذن على قومية واحدة، أو عرقية واحدة، أو دين واحد، أو مذهب واحد، أو لغة واحدة؛ ومع ذلك فالسلوك الطائفي لنظام الملالي، يجعل أبناء هذه الأقليات القومية والعرقية والدينية يعاني من التهميش والاضطهاد، وغياب تكافؤ الفرص. وإذا كانت هذه الاضطرابات في جانب منها تعبر عن حالة الاستياء البالغة من الوضع الاقتصادي، إلا أنها في جانبها الأكبر تمثل رد فعل للمظالم الواقعة على هذه الأقليات، والانتهاكات المستمرة التي يمارسها النظام لحقوق الإنسان ضدهم، والتي وصلت إلى مطالبة بعضهم بالانفصال عن الدولة، كالأهواز، والأكراد، بل إن الرئيس الإيراني، «روحاني»، أقر بتعرض الأقليات للاضطهاد في كلمته في يونيو الماضي، مؤكدا أن هذه الأقليات «محقة في شكواها، لأنها لا تستطيع الحصول على حقوقها». ومع ذلك، تواصل إيران تجاهلها لقواعد القانون، وانتهاكاتها لحقوق الإنسان الأساسيّة، وبصورة خاصّة الحقّ في الحياة بحرّية وكرامة. ويزداد سجلها سوءا، جرّاء القمع الممنهج الذي ترتكبه ضد الشعوب غير الفارسية والأقليات الدينية، الذين يتعرّضون لانتهاكاتٍ جسيمة، بما في ذلك التشريد القسري، والقتل الجماعي، والتعذيب، والحرمان من الحقّ في التعليم والصحّة والسكن اللائق، بلّ حتى في اختيار اسماء أبنائهم. وتحرم هذه الشعوب من الحقّ في حرية التعبير والتجمّع السلمي، والمشاركة السياسية، أو تقلد الوظائف العامة، ومارس التمييز بكافة صنوفه لحساب القومية الفارسية، والشيعة الجعفرية الأثنا عشرية، وعطل مواد الدستور التي تقضي بالمساواة بين مكونات الشعب الإيراني بحجة اعتبارات الأمن القومي، فمثلا يتم منع بناء أي مسجد للسنة في طهران. ويُعتبر «الأهوازيون» من أكثر الشعوب المُستهدفة. ومع أن هذه المنطقة من أغنى مناطق إيران بالنفط، إلاّ أن السياسات التمييزيّة حوّلتها إلى واحدة من أفقر المناطق وأقلّها نموًا، بعد أن استغل النظام جميع الثروات لتحقيق أهدافه السياسية، وعمل على تهجير العرب وتغيير التركيبة السكانية وتحجيم اللغة العربية، وتغيير مسار الأنهار إلى المناطق الفارسيّة. كل هذا في الوقت الذي كان بمقدور أبناء إيران من مختلف القوميات والعرقيات والديانات والمذاهب، أن ينعموا بمستوى اقتصادي لائق، في دولة هي ثانية أكبر دول الشرق الأوسط مساحة وسكانًا، تملك ثالث أكبر اقتصاد في الشرق الأوسط، إذا كانت المواطنة وليست الطائفية هي سياسة نظامها، وإذا كانت هناك إدارة رشيدة لمواردها الاقتصادية، لا تجعل المغامرات الخارجية، والتدخل في شؤون الغير وسعيها للهيمنة الإقليمية هو ديدنها، ولا تقوم باستنزاف هذه الموارد في تمويل هذه المغامرات، وإشعال سباق تسلح، بل والدخول في برنامج نووي، ومن ثمّ، فإن السلوك الداخلي لهذا النظام ضد أبناء هذه الأقليات قد فاقم من إحساسهم بالظلم والتهميش، ومن ثم دفعهم إلى الثورة. ولم يكن هذا السلوك بعيدًا عن نظر المجتمع الدولي، وخاصة أنه ليس سياسة طارئة، بل هو «سلوك ممنهج»، دأبت الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية الدولية على تناوله وانتقاده، ففي نوفمبر 2017 أصدرت الأمم المتحدة قرارًا يدين طهران لانتهاكاتها لحقوق الإنسان وتزايد الإعدامات والاعتقالات التعسفية ضد النشطاء والصحفيين والمنتقدين للنظام. ومنها التقرير، الذي أصدرته الخارجية الأمريكية في إبريل 2018 وأدانت فيه انتهاكات حقوق الإنسان، ضد الأقليات الدينية والقومية والعرقية والنساء. وفي هذا الصدد يرصد تقرير «منظمة العفو الدولية» 2017/2018 استبعاد المرشحين ضد روحاني بالتمييز ضدهم على أساس الجنس والمعتقد الديني والرأي السياسي. وفي عام 2016. قالت «هيومن رايتس ووتش»: إن «قوات الأمن والمخابرات هما أكثر من انتهك حقوق الإنسان في إيران»، كما دعت الأمم المتحدة، وفي 2017. ذكرت منظمة «مراسلون بلا حدود»، أن إيران «مازالت من الدول الخمس الأولى الأكثر سجنا للصحفيين، حيث صنفت في المرتبة 165 من أصل 180 دولة». واحتلت المرتبة الرابعة على مستوى العالم في الرقابة الحكومية على الإعلام، طبقا لتحليلات لجنة «حماية الصحفيين» لنفس العام. وفي تقريرها الصادر عام 2017 أفادت «فريدم هاوس»، بأن إيران مازالت في نهاية الجدول العالمي في مجال قيود الإنترنت، حيث احتلت المرتبة 85 من أصل 100 دولة. وانتقدت «هيومن رايتس ووتش» أوضاع حقوق الإنسان في إيران بشدة واصفة ما قامت به الحكومة عام 2017 في مجال «قمع حرية التعبير والمحاكمات العادلة والمساواة بين الجنسين، والحرية الدينية» بـ«المأساوي». وأدرجت الولايات المتحدة إيران على قائمتها لأسوأ الدول فيما يتعلق بالاتجار بالبشر واتهمتها بتجنيد الأطفال. على العموم، لم يكن هدف ثورة الشعب الإيراني عام 1979. هو إيصال رجال الدين إلى السلطة، بل تحرك الشارع الإيراني للتخلص من نظام الشاه وجهازه الأمني المتمثل في جهاز «السافاك»، الذي أرعب الإيرانيين لأكثر من عقدين من الزمن. ولم يدرك المواطنون أنه بوصول الملالي إلى السلطة ستزداد الأمور سوءا. غير أنه مما لا شك فيه سيعيد التاريخ نفسه؛ ليشكل الجانب الحقوقي في الأزمة الإيرانية الحالية، واحدًا من أهم الجوانب، والذي قد يكتب نهاية نظام ولاية الفقيه.
مشاركة :