سورية أمام خيارين، إما أن تكون جمهورية الأسد، انطلاقاً من الوقائع الراهنة، حيث استعاد الأسد السيطرة على أجزاء واسعة مقابل انهيار مكونات المعارضة، بما يعنيه ذلك من إدارة روسية لشؤون البلد، أو سورية جديدة، عبر عملية انتقال سياسي سلمية بتعاون إقليمي ودولي تحضيراً لاستحقاقات المرحلة القادمة، وبخاصة إعادة الإعمار وعودة اللاجئين. الخياران، تتحكم بهما القوى الخارجية، ولن يكون هناك طرف سوري مقرّر، وستقتصر أدوار السوريين على تنفيذ القرار الخارجي، وبالتالي فإن سورية المستقبلية، على مستوى طبيعة نظام الحكم وشكل الدولة، والتوجهات السياسية، وحتى ألوان العلم والنشيد الوطني، سيتم تشكيلها وإقرارها خارج دمشق، سواء بقيت جمهورية الأسد أو سورية ما بعد الأسد. حتى اللحظة، تبدو جمهورية الأسد، مع بعض التحسينات الشكلية، هي الأقرب للواقع والأكثر التصاقاً بمجريات الأحداث، ذلك ان هذه الجمهورية ستعتبر رمز الانتصار الروسي، عسكرياً وديبلوماسياً وإعلامياً، ومثالاً على قدرة روسيا البوتينية، وانعكاساً لمدى تأثيراتها في المستوى الدولي، وستحاول موسكو استعراض هذا النموذج واستثمار رمزيته في إخضاع خصومها الدوليين، كما ستحاول فرض الأسد وإعادة تأهيله دولياً بإعتباره الخيار الوحيد والإجباري لسورية. غير أن نجاح هذا الخيار يتوقف بدرجة كبيرة، ليس على إرادة روسيا ورغباتها، بل على مدى إستجابة الأطراف الدولية والإقليمية ومدى خضوعها للخيار الروسي، والأهم من ذلك، طبيعة تحضيراتها للتعاطي مع المرحلة السورية المقبلة، فهل سيكون لديها إستراتيجية واضحة ومحدّدة، وإطار تنطلق منه، وتستطيع إجبار روسيا على الإمتثال للرغبة الدولية في حصول إنتقال سياسي في سورية، أم سيكون هناك مواقف متفرقة لكل دولة على حدة، وهو ما تفضله روسيا، حيث سيكون بإمكانها تفتيت قوة خصومها تفاوضيا، تماما كما فعلت مع فصائل المعارضة، ودفعهم للإستسلام لرؤيتها. على ذلك، فإن القضية السورية اليوم، وبعد انتهاء الجزء الأكبر من العملية العسكرية، باتت في مجال التفاوض، والمعلوم أن عوامل الخبرة وحشد الموارد الديبلوماسية ورفدها بالعناصر الاقتصادية، عوامل مهمة في هذه العملية إذا تم تنظيمها واستثمارها جيداً، وبخاصة أن الموقف العسكري في سورية غير دقيق ولا يكفي وحده لحسم المشهد، إذ عدا عن حقيقة أن انتصار الأسد تم بجهد روسي– إيراني، غير ممكن تأمينه دائماً، فإن المشهد الذي رتبته روسيا على الأرض فوضوي بدرجة كبيرة وقد ينقلب في مدى زمني قريب إلى حالة استنزاف ضدها، والمقصود هنا التسويات التي أجرتها في الجنوب والقلمون وأرياف حمص، ما لم تدعمها بعملية سياسية حقيقية. تدرك روسيا أنها أمام مرحلة التفاوض هذه ستواجه قوى دولية خبيرة ولديها اشتراطات ورؤى مختلفة، وبالتالي يستدعي هذا الوضع رفع سقف التفاوض بدرجة كبيرة، ولا بأس أن يكون بحجم تسليم الأطراف الدولية والإقليمية بإبقاء الأسد في السلطة وحقه في الترشح للانتخابات المقبلة، مقابل تقديم إغراءات للدول الغربية، على وجه الخصوص، في ملفات لا تؤثر كثيراً في سلطة الأسد، كأن يتم الاعتراف للأكراد بالحكم الذاتي، أو صناعة عملية سلام بين نظام الأسد وإسرائيل، أو حتى إغراء الأطراف الإقليمية والدولية بالفوائد الإقتصادية المتخيلة نتيجة إعادة تنشيط طرق التجارة الإقليمية العابرة لسورية، او الإزدهار الإستثماري الناتج عن إقلاع عملية إعادة الإعمار. لكن نقطة الضعف في الخطة الروسية تتمثل بدرجة كبيرة بعامل الوقت، ذلك أن تطبيق هذه الأجندة، من إقناع الأطراف الإقليمية والدولية، وتأمين سير الأمور في سورية بسلام، والتحكم بإدارة مفاصل هذه العملية المرهقة، كل ذلك يحتاج وقتا لا تستطيع روسيا الصمود خلاله، بخاصة أن روسيا نفسها بدأت تطوير أهدافها وتوسيع دائرتها ونسج علاقات، وإن كان طابعها تقنياً، مع المجتمعات المحلية، ولم يعد هدفها منحصراً في تامين قاعدة عسكرية لها، فهذا هدف غير قادر على الصمود في بلد محطم، كما أنه لن يفيد روسيا كثيراً اذا بقيت سورية في عزلة إقليمية ودولية، وهذه المعطيات سيكون لها انعكاس على موقف روسيا وسياستها السورية إجمالاً. بالمقابل، يبدو أن الموقف الدولي ما زال متماسكاً في مواجهة السياسة الروسية، حيث ترفض الدول الفاعلة الانخراط بالخطة الروسية الداعية لإعادة تأهيل نظام الأسد، كما ترفض محاولات روسيا تلزيم المجتمع الدولي عملية إعادة الإعمار في سورية، وقد كان كلام السفير الفرنسي في مجلس الأمن، بأن الدول الغربية ترفض المساهمة في اعادة الإعمار ما لم تحصل عملية انتقال سياسي، بمثابة رسالة تأكيدية لروسيا أن المواقف لم تتبدل بعد، كما أعادت فرنسا أخيراً طرح ورقة «الخمس» التي اتفقت عليها في باريس، بداية العام الجاري، كل من فرنسا والولايات المتحدة وبريطانيا والسعودية والأردن، والتي تتضمن رؤية للحل السياسي في سورية. من سيفوز بهذا الصراع، جمهورية الأسد، أم دولة سورية للجميع، هذا ما ستحدّده مجريات التفاوض في المرحلة القادمة، وهنا يتوجب على المعارضة السورية أن تلعب دوراً رفيداً للجهود الدولية والإقليمية، وأن تكون بحجم هذه المهمة، بما يتطلبه ذلك من تجهيز ورشات قانونية وسياسية وإعلامية لتدعيم عملية ولادة سورية الجديدة والخلاص من جمهورية الأسد التي تنذر بمستقبل قاتم للسوريين.
مشاركة :