خلال الأشهر الماضية، لم يكفّ كثير من التونسيين عن رفع أصواتهم عاليا للمطالبة بإيقاف البثّ المباشر لجلسات مجلس الشعب. وهم محقّون في ذلك إذ أن هذه الجلسات التي تمتدّ إلى ساعات طويلة، باتت فرصة لمعارك كلامية طاحنة، ولتبادل التهم والشتائم المقذعة ولتصفية الحسابات، وهتك أعراض الوزراء والمسؤولين الكبار بمن في ذلك رئيس الدولة نفسه، والدّوْس على قوانين المجلس ذاته، وكل هذا يحدث في جو موسوم بالصراخ والعويل والهيجان، وفيه يتفنن النواب في استعمال الكلمات البذيئة التي لا تختلف عن تلك التي تستعذبها ألسنة المنحرفين والفاسدين أخلاقيا واجتماعيا. والواضح أن نواب مجلس الشعب لهم فهم خاطئ لحرية التعبير التي جاءت بها “ثورة الحرية والكرامة”. لذلك هم يعتقدون أن هذه الحرية تبيح لهم أن يفعلوا ما يشاؤون وأن ينطقوا بما يحلو لهم من دون مراعاة لا للأخلاق العامة ولا للذوق السليم، مهملين تماما مصالح البلاد والعباد وعازفين عن الخوض في القضايا الحارقة. وفي صيف حارق كهذا الصيف الذي تشهد فيه العديد من المناطق انقطاع الماء والكهرباء، ونقصا فادحا في الأدوية وارتفاعا في أسعار المواد الغذائية، يكتفي نواب مجلس الشعب باستعراض مواهبهم في تبادل الكلمات البذيئة، كاشفين عن أحقادهم وضغائنهم الدفينة، وعن خوائهم السياسي والفكري، وعن عجزهم عن إيجاد حلول للمشاكل القائمة، وعن جهلهم بمقتضيات الواقع، وعن لامبالاتهم بمعاناة منتخبيهم. وفي غياب للحس الوطني ينسى أغلب نواب مجلس الشعب أنهم انتخبوا من أجل خدمة مصالح المواطنين، ويشرعون في كل مرة تتاح لهم فيها فرصة الكلام في التحريض على العنف والتخريب ونشر الفوضى والكراهية وإشعال نيران العروشية والقبلية والبدائية. وكل هذا يتم أيضا باسم حرية التعبير! وفي الجلسات المخصصة لمساءلة الوزراء، ينتفي الهدوء وتندحر الرصانة وينتحر العقل. وعوض مناقشة القضايا والمشاكل المطروحة في الملفات التي أمامهم، ينشغل نواب مجلس الشعب بـ”محاكمة” هذا الوزير أو ذاك اعتمادا على تهم غالبا ما تكون ملفقة وعلى إشاعات مغرضة. والهدف الأساسي من كل هذا هو أنهم- أي النواب- يرغبون في لفت الأنظار إليهم، وإثارة إعجاب منتخبيهم ببطولاتهم الوهمية. وبذلك تنتهي جلسات مساءلة الوزراء من دون الوقوف على المسائل التي أقيمت من أجلها. ولم يسلم رئيس مجلس نواب الشعب محمد الناصر من “تسونامي” بذاءة التعبير. ففي أكثر من مرة، يندفع نائب أو نائبة لقذفه بأبشع النعوت من دون مراعاة لتجربته السياسية التي تمتد إلى خمسين سنة، ولا إلى شخصيته الكيسة ولا لهدوئه النادر، بل المنعدم تحت قبة المجلس. ويبدو أن هناك نوابا لا يذهبون إلى مجلس الشعب إلا عندما توفر لهم الجلسات فرصة لتفريغ عقدهم وأحقادهم وإبراز رغباتهم في الاستفزاز والغطرسة الشعبوية. أما الجلسات التي تتسم بالجدية- وهي نادرة إن لم تكن منعدمة أصلا- فيهجرونها. وعلى صفحاتهم في مواقع التواصل الاجتماعي، تنشر صور لقاعة مجلس الشعب وهي شبه فارغة… لذلك لم يعد التونسيون يكتفون في أيامهم العصيبة هذه بقطع البث المباشر للجلسات، بل بحل مجلس لم تعد له فائدة ولا مصلحة ولا دور سوى التهريج والتخريب والعبث بمصالح البلاد والعباد!
مشاركة :