يحفظ المتدينون المسيحيون قولا مأثورا للرسول بولس ورد في أحد الأسفار القديمة يقول فيه “بالإيمان سقطت أسوار أريحا بعدما طيف حولها سبعة أيام”، وبعد قرون عديدة يتناقل عدد من أقباط مصر نفس القول بالقليل من التحريف والمزيد من الخوف. هم يتابعون تداعيات حادث مقتل الأنبا إبيفانيوس رئيس دير أبومقار بوادي النطرون في محافظة البحيرة شمال مصر. على مدار قرون طويلة، حافظت الأديرة المصرية على عزلتها عن العامة، لها قواعد ومنهج خاص حتى في استقبالها للزائرين، يلمحه عابر السبيل من بعيد وينسج بخياله صورة عما في داخلها دون أن تتاح لأي شخص فرصة مقاربة الخيال بالواقع. جاء اغتيال الأنبا إبيفانيوس مؤخرا، في ظروف غامضة ليفتح باب دير أبومقار على مصراعيه أمام رجال الشرطة والنيابة، وربما يفتح الباب لكسر عزلة الأديرة. كشف الحادث عن صراع محتدم بين تيارين، أحدها محافظ والآخر إصلاحي، صراع ظل مخبأ بين جدران الكنيسة لعقود طويلة. لكن فتحت الواقعة الباب على مصراعيه أمام اتخاذ خطوات تنويرية شاملة طالما حلم بها إبيفانيوس، لكنه لم يكن يدري أن موته سوف يتحول إلى شرارة قد تحقق الإصلاح. تداعيات خطيرة بدأ الصراع حول خلافات فكرية وعقائدية ولاهوتية وروحية، وسرعان ما تحول إلى سجالات حامية خارج الكنيسة عبر ممثلين متشددينبدأ الصراع حول خلافات فكرية وعقائدية ولاهوتية وروحية، وسرعان ما تحول إلى سجالات حامية خارج الكنيسة عبر ممثلين متشددين لم يمثل الحادث صدمة كبيرة لكونه الأول من نوعه فقط، لكن أيضا لأن تبعاته حملت الكثير من الجدل خاصة مع موقف بابا الكنيسة الأرثوذكسية تحت قيادة البابا تواضروس الثاني الذي اتخذ قرارات حازمة ضد الرهبان. وقدم في عظته الأخيرة رسالة شديدة اللهجة اتهم فيها رهبانا يدعون الإيمان بأنهم لا يختلفون عن يهوذا الذي تسبب في مقتل المسيح بعد الإبلاغ عن مكانه، بحسب الرواية المسيحية. تلك العظة الأخيرة ومحاولات تواضروس طمأنة الأقباط تفصحان عن الفزع الذي أصاب الكثير من الأسر المسيحية بعدما فوجئوا بأن قضية مقتل الأنبا إبيفانيوس خرجت من رحاب القتل العادي لترخي بظلالها على ما تعيشه الكنيسة من صدع بين تيارين بلغ الخلاف بينهما درجة إراقة الدماء. منذ أن تولى تواضروس الثاني مقاليد منصبه بابا للأقباط الأرثوذكس قبل خمس سنوات، بات هناك صراع يلاحظه المتابعون للشأن الكنسي في مصر بين تيارين رئيسيين؛ أولهما تيار البابا الراحل شنودة الثالث، ممثلا للتيار التقليدي المحافظ في الكنيسة، مقابل تيار الأب “متى المسكين” الذي يعد الجناح الإصلاحي ويتبناه البابا تواضروس. بدأ الصراع حول خلافات فكرية وعقائدية ولاهوتية وروحية، وسرعان ما تحول إلى سجالات حامية خارج الكنيسة عبر ممثلين متشددين، تجلى في محاولات مستميتة للاستقطاب وفرض وصاية كل تيار على الكنيسة والاستئثار بالحقيقة المطلقة. يرى الكثير من الأقباط هذا الخلاف امتدادا لصراع قديم بين الراحلين الأب متى المسكين الأب الروحي للراهب إبيفانيوس المغدور، وشنودة الثالث بابا الأقباط الراحل. يمثل متى المسكين، الذي توفى في يونيو عام 2006 وتلاميذه من بعده، نمطا مغايرا يؤمن بأن دور الكنيسة يجب أن ينحصر في الشق الديني الذي ينظر إلى روح النص لا شكله، وهدم السائد وفتح آفاق للتفكير، ومحاولة التقريب بين المسيحي والسماء، بينما كان شنودة يميل أكثر إلى فكرة الدولة ويؤمن بسلطة الكنيسة بمعناها الأوسع. اختلفت نظرة الرجلين تجاه الكنائس الأخرى، فكان متى أكثر انفتاحاً وميلاً إلى التقارب، في حين كان شنودة، على عكسه يخالف الغرب وكنيسته. ولذلك يمكن قراءة مقتل إبيفانيوس على أنه انعكاس لصراع محتدم بين التيارين انتقل من داخل الكنيسة إلى خارجها، وتحديدا في دير متى المسكين نفسه الذي كان مسؤولا عنه الراهب القتيل. حرب المتاويين والشنوديين قتل الأنبا إبيفانيوس يتشابه مع حوادث كنسية لافتة، مثل واقعة الإسكندرية الشهيرة في عام 414 م بعد صراع محتدم بين تيارين؛ أحدهما تنويري بقيادة الفيلسوفة هيباتيا، وآخر بقيادة الأسقف كيرلس الأول الذي اتهمها بالهرطقةقتل الأنبا إبيفانيوس يتشابه مع حوادث كنسية لافتة، مثل واقعة الإسكندرية الشهيرة في عام 414 م بعد صراع محتدم بين تيارين؛ أحدهما تنويري بقيادة الفيلسوفة هيباتيا، وآخر بقيادة الأسقف كيرلس الأول الذي اتهمها بالهرطقة تجلت مظاهر متعددة للخلاف بين رهبان الدير الذين كان بعضهم من أتباع التيار المتاوي، نسبة إلى متى المسكين، وكان الآخرون ملتزمين حرفيا بتعاليم التيار الشنودي، نسبة إلى البابا شنودة، لتتحول الحياة داخل الدير المفترض أن يكون ملاذا للمؤمنين الباحثين عن الخلاص والزاهدين في الدنيا إلى حرب بالوكالة بين الرهبان المتشاحنين، حتى أن البابا تواضروس نفسه وجه نصيحة للأنبا إبيفانيوس بعد اختياره رئيسا للدير في مارس عام 2013 برأب الصدع داخله ولم شمل الرهبان، وفشلت المهمة وراح ضحيتها. لا يخلو التاريخ المسيحي منذ القرن الثاني الميلادي من صراعات عقائدية مستميتة بين تيارات مختلفة لفرض سطوتها الدينية والسياسية. وتحولت مع الزمن إلى حروب دموية ودعوات قتال وصراع مع فئات وصف بعضها بالكافر. يتشابه حادث اغتيال الأنبا إبيفانيوس مع واقعة الإسكندرية الشهيرة في عام 414 م بعد صراع محتدم بين تيارين؛ أحدهما تنويري بقيادة الفيلسوفة الشهيرة هيباتيا التي أرادت تفسير المناهج المسيحية الشرقية مع الفلسفة اليونانية لفهم النص فهما أوسع، وآخر بقيادة الأسقف كيرلس الأول بابا الكنيسة الذي اتهم الفيلسوفة وتابعيها بالهرطقة، لينتهي الصراع بمقتل هيباتيا في قلب الإسكندرية وعلى يد تلاميذ كيرلس. يبدو أن التاريخ يعيد نفسه مع نشأة الخلاف بين الراحلين شنودة الثالث ومتى المسكين، والذي يرجعه البعض إلى بداية تنافس متى وشنودة على كرسي البابوية، عقب وفاة البابا كيرلس في بداية سبعينات القرن الماضي. في ذلك الوقت كان منافسه البابا شنودة الذي تم ترسيمه للمنصب الأكبر عند الأقباط الأرثوذكس، لكن التنافس ترك مرارة بين الرجلين، بقيت معالمها مكتومة في الصدور حتى وقع الخلاف بين البابا شنودة والرئيس المصري الراحل أنور السادات خلال أحداث سبتمبر 1981 وانتهى بقرار السادات عزل البابا وتعيين لجنة بابوية من خمسة قساوسة. يتناقل البعض أن الأب متى المسكين تحدث مع السادات وقتها وعبر عن رفضه لسياسة البابا شنودة، وأكد أنه نصحه بتهدئة الأجواء، واعتبر البعض الواقعة المسمار الأخير في علاقة الراهبين. بعد عودة البابا شنودة إلى منصبه عقب اغتيال السادات، ابتعد متى المسكين عن الظهور في المناسبات العامة وبات لا يغادر دير “أبومقار” تقريبا، وقيل إن ذلك تمّ بضغوط من البابا. ولاحظ كثيرون أن الكتب التي يصدرها الدير لم تكن تحمل اسم البابا، عكس ما اعتادت كل الأديرة عمله، في إشارة لا تخطئها الأعين تشي باستقلال الدير ورئيسه متى المسكين عن سلطة البابوية في مصر. الإرث الثقيل المشهد الرئيسي في قصة الخلاف حدث بعد وفاة متى المسكين عام 2009 حين زار البابا شنودة دير الأنبا مقار، وقد ارتدى الرهبان القلنسوة السريانية، وهي غطاء للرأس يرتديه كل رهبان الكنيسة الأرثوذكسية، ما عدا رهبان هذا الدير فقط، الذين كانوا يرتدون القلنسوة القبطية، التي عرف بها الأب متى، ومنهم من ارتدى قلنسوة شنودة فصار تابعًا له ومنهم من رفض وظل تابعا للمسكين، وكان إبيفانيوس أحد الذين التزموا بالولاء لمتى. كان الأنبا إبيفانيوس تلميذًا مخلصًا لمتى المسكين، يؤمن بالرهبنة الجادة والمتقشفة، وكان الدير لا يستقبل زوارًا إلا فيما ندر بالشكل الذي حفظ له خصوصيته وأبعده عن ضجيج العالم الخارجي فتحول رهبانه إلى علماء يكتبون الأبحاث ويترجمون عن اللغات القديمة وينتجون الأفكار، وخلفهم مساحات شاسعة من الأراضي والمزارع ينفقون بها على حياتهم الرهبانية ويتبرعون بما يزيد عن حاجتهم للفقراء. عقب وصول البابا تواضروس إلى منصبه وميله الواضح إلى أفكار متى المسكين، اختار الأنبا إبيفانيوس ومعه اثنان من تلاميذ المسكين للتنافس في انتخابات عام 2013 لاختيار رئيس الدير، لكن الرهبان “الشنوديين” لم يصوتوا في الانتخابات، وفضل عدد منهم الإقامة بمزرعة الدير، وليس في “القلاية” وهي الخلوة المخصصة للراهب. لم يهنأ الراهب الراحل ببداية هادئة منذ يومه الأول في رئاسة الدير، وتطورت الأمور عام 2015 حين قرر راهب يدعى يعقوب المقاري تأسيس دير جديد باسم “السيدة العذراء والأنبا كاراس” بوادي النطرون، ما جعل رئيس الدير يصدر بيانا رسميا يتبرأ فيه من هذا الراهب. لكن ذلك لم ينه المشكلة، وزاد من حدتها أن الخلافات مع رهبان الدير من الشنوديين علانية. وظهر ذلك جليا عندما رغب الأسقف في نقل الراهب “إشعياء المقاري” الذي تم تجريده من الرهبنة عقب وفاة إبيفانيوس، فما كان من الأخير إلا أن جمع توقيعات من زملائه للبقاء في الدير. لم يرث الأسقف الراحل الذي تخرج من كلية الطب فقط أزمات أستاذه، بل ورث علمه أيضا، وكانت رسالته لتلاميذه “اقرأوا، ترجموا، تعلموا”، فكان من أبرز تلاميذ متى المسكين. آمن بأن الوحدة المسيحية يمكن أن تتحقق، وظل ينادي بالوحدة بين الكنائس سيرًا على درب معلمه، وكان الأب متى المسكين يرى أن الخلافات اللاهوتية لا تنفي حقيقة إيمان الجميع بالمسيح، وأول من اطلع على أقوال وآراء قديسي الكنائس غير القبطية أي من الكنيسة الجامعة، الذين لم تكن تعرفهم الكنيسة القبطيـة. كان التيار التقليدي الشنودي يغلق الباب أمام محاولات للتقارب مع الكنائس الأخرى المختلفة، ودائما ينظر بشك إلى تقاربات إبيفانيوس وأبناء متى المسكين مع بقية الكنائس الأخرى. ولم يسلم الراهب المستنير من عمليات تشهير واسعة، بسبب مساره التصالحي مع الكنائس غير الأرثوذكسية، وتعرض لحملة ضارية من قبَل الحرس القديم لاغتياله معنوياً، بنفس التهمة التي أدين بها أستاذه الراحل الأب متى وهي الهرطقة. ما زاد الصراع احتداما أن البابا تواضروس اتخذ قرارا مفاجئا، في مايو الماضي، حين عقد اجتماعا للمجمع المقدس الأخير للكنيسة القبطية، بتعيين الأنبا إبيفانيوس مراقبًا للجنة الباباوية للحوار ومسؤولا عن ملف الحوار بين الكنائس. وهي المهمة التي كانت من مسؤولية لجنة الحوار اللاهوتي التي يجلس على مقعدها الأنبا بيشوى منذ سنوات طويلة، أستاذ اللاهوت التقليدي في الكنيسة الأرثوذكسية، وزادت مخاوف خصومه من تعاظم وجوده في الكنيسة وتمدد نفوذه خارجها. نقطة اللاعودة التوجه الأخطر اليوم يتمثل في المساس بمستقبل الرهبنة، من خلال لجوء البابا تواضروس إلى اتخاذ إجراءات وصفت بـ”الإصلاحية” تستهدف ضبط أمور الرهبنة وجعلها تحت سلطة الكنيسةالتوجه الأخطر اليوم يتمثل في المساس بمستقبل الرهبنة، من خلال لجوء البابا تواضروس إلى اتخاذ إجراءات وصفت بـ”الإصلاحية” تستهدف ضبط أمور الرهبنة وجعلها تحت سلطة الكنيسة آمن تواضروس بقدرات إبيفانيوس ومدرسة متى المسكين الرهبانية في التقارب مع الكنائس الأخرى، وكان المسكين أول من قرأ كتابات آباء الكنائس الأخرى وعلى يده بدأت حركة ترجمة بعض كتاباتهم، ما فتح للأقباط نافذة جديدة على المسيحية العالمية، وغير نظرة الأقباط لتلك الكنائس من العداء إلى القبول والمحبة، وهو حائط الصد بين البابا ومن يحاربون فكره المتجدد، ودعمه بالإجابات الكتابية التي لم يستطع أحد التشكيك فيها. تفجر الوضع وانقسم المجتمع القبطي على نفسه، بين مَن يعتبر أن مصرع إبيفانيوس أتى على خلفية الصدام بين قوى التجديد والقوة المحافظة، باعتبار القتيل من أهم رجال تواضروس حتى يمكن وصفه بأنه رأس حربة التيار المجدد، ومَن يرون أن الرهبان لا يمكن أن يتورطوا في جرائم الدم، وأن الصراع رغم وجوده إلا أنه لا يعدو أن يكون إشكالية لاهوتية بين رجال الدين وليس صداماً دامياً بين حفنة من القتلة. بات التخوف الذي يسود قطاعا كبيرا من المثقفين المسيحيين أن تكون الخلافات بلغت نقطة اللاعودة، وهو ما بدأت ملامحه بتعامل الكنيسة مع الحدث، بقرار البابا تواضروس القفز على جدران العزلة المقدسة على الأديرة والاتصال بالشرطة لتحري أسباب الجريمة ليصبح الشأن الداخلي القبطي لأول مرة شأنا عاما. ثم حرصت الكنيسة المصرية تاليا على التعامل مع الحادث بوضوح من خلال نشر بيانات متعاقبة خاصة بالقضية على صفحتها الرئيسية بمواقع التواصل مترجمة إلى اللغتين الإنكليزية والفرنسية في تقليد جديد على الكنيسة، بغرض وصول القرارات إلى أقباط المهجر. يبقى التوجه الأخطر باعتباره يمس مستقبل الرهبنة، في لجوء البابا تواضروس إلى اتخاذ إجراءات وصفت بـ”الإصلاحية” تستهدف ضبط أمور الرهبنة وجعلها تحت سلطة الكنيسة لينهي استقلالا تاريخيا يعود إلى القرن الرابع الميلادي.
مشاركة :