ارتخاء قبضة الدولة العراقية وتراجعها الشامل خلال الـ15 سنة الماضية سمحا للفساد بالتسرب إلى مختلف القطاعات بما فيها الأشد حساسية والأكثر تأثيرا على حياة الناس مثل قطاع الأدوية، ليتحوّل بذلك إلى ضرب آخر من ضروب الإرهاب الذي يمارس على أيدي متنفذين في أجهزة الدولة ذاتها. يشهد قطاع الأدوية في العراق حالة من الفوضى العارمة، بعد أن كان يسير بضوابط صارمة، قبل الاحتلال الأميركي في 2003، حيث أصبحت الأدوية في ظل الفساد المستشري تباع على الأرصفة بدلا من الصيدليات، وعلى يد باعة الخضر ومنتجات الألبان الذين يجدون أن بيع الأدوية يدر عليهم أرباحا أكثر. ويشرح أحد من شغلوا منصب وزير للصحّة في العراق قبل الاحتلال، طالبا عدم ذكر اسمه لأسباب تخص أمن عائلته، لـ“العرب” أن وزارة الصحة كانت تستورد الأدویة والمستلزمات والأجهزة الطبیة من خلال شركة كیمادیا المتخصّصة في استيراد مستلزمات قطاع الصحّة والتي منحت عددا من المكاتب العلمیة صلاحیة استیراد بعض الأدویة للقطاع الخاص، موضحا أن العملیة الاستیرادیة كانت تمر بمراحل علمیة رصینة وفقا للمعاییر الدولیة، إذ تبدأ بمراجعة الهیئة الوطنیة لانتقاء الأدویة لقائمة الأدویة وتحدیثها، ثم الإعلان عن الاحتیاجات عن طریق المناقصة، لتختار لجان استشاریة لكل تخصص طبي أحسن العروض، وبعدها تتخذ كیمادیا الإجراءات الأصولیة لتوقیع العقود مع الشركات العالمیة المجهزة وفقا للقواعد العالمیة الرصینة. وكان دیوان الرقابة المالیة المركزیة للدولة يراقب تلك العقود. ثم تأتي المرحلة الأخيرة بإجراء المركز الوطني للرقابة والبحوث الدوائیة الفحص النوعي على هذه الأدوية، قبل موافقة هیئة الاستلام والقبول على البدء بصرف الأدوية. ويشير الوزير الأسبق إلى تعدد مناشئ الاستیراد بعد عام 2003، حیث منحت صلاحیة الاستیراد بالإضافة إلى كیمادیا، إلى المحافظات والقطاع الخاص والمنظمات من دون الالتزام بالضوابط، وكذلك عدم مرور العملیة الاستیرادیة بالمراحل العلمیة الاقتصادیة المذكورة، لا سیما وأن المنافذ الحدودیة غیر مسیطر علیها ویمكن إدخال أي مادة دوائیة من الحدود بسهولة نظرا للفساد المعروف في الأجهزة الأمنية والديوانية، الأمر الذي خلق فوضى عارمة تهدد حياة الملايين بالخطر، وجعل الثقة العالية بالمؤسسات الصحية العراقية تنهار. وبرغم الإمكانیات المالیة التي أتيحت بعشرات الأضعاف بعد الاحتلال قياسا بما قبله فقد شهد العراقيون فقدان أدویة مهمة منقذة للحیاة وتوفر أدویة من مناشئ سیئة وأحیانا مزورة، فيما كانت وزارة الصحة العراقية قبل الاحتلال وفي زمن الحصار الدولي الذي فرض على العراق، توفر كل أنواع الأدویة المهمة وأدویة الأمراض المزمنة وجمیع المستلزمات الطبیة عن طریق تطبیق مذكرة التفاهم “النفط مقابل الغذاء والدواء”. لا يمكن لأحد أن يضمن سلامة الأدوية المتداولة في سوق القطاع الخاص فهي مقترنة بعمليات تهريب وتحميها مافيات وكان العراق يمتلك مصانع متقدمة للأدوية في مقدمتها مصنع سامراء لصناعة الأدویة المشهود له بجودة إنتاجه لیس في العراق وحسب، وإنما أيضا في الوطن العربي وحتى أفریقیا، وكان یمدّ وزارة الصحة والقطاع الخاص بأدویة مصنّعة من أجود المواد الخام وخاضعة للرقابة الصارمة. ويعرب الوزير الأسبق عن أسفه لتراجع صناعة الأدوية في العراق بسبب إيقاف الدولة دعمها لهذه الصناعة مما أدى إلى عدم توفير المواد الأولیة من مناشئ رصینة، وتوقّف معظم خطوط الإنتاج، وكذلك عدم تسدید المستفیدین في وزارة الصحة والمحافظات والقطاع الخاص أثمان الأدویة بسبب الفساد في الأجهزة الحكومية وسكوت إدارة معمل سامراء عن ذلك لقاء الرشاوى والمصالح الخاصة لمسؤولیها. وأيد ما ذهب إليه الوزير الأسبق، معاون مدير دائرة المفتشية في وزارة الصحة سامي الرسمي قائلا في تصريح صحافي “نحتاج إلى إمكانيات بشرية ومادية للتفتيش في المحافظات وضبط المخالفات”، مؤكدا أن “حدود البلاد غير مضبوطة وتدخل عبرها الأدوية غير المرخصة، وهناك مافيات تتاجر بالدواء وجهات عليا لديها تدخل في هذا المجال وأحيانا تمارس ضغوطا لفتح المذاخر”. ووجود هذه المافيات والشبكات التي تتاجر بالأدوية هو ما دفع أكثر من صرّحوا لـ”العرب” حول الموضوع إلى التأكيد على عدم ذكر أسمائهم، نظرا لما لتلك المافيات والشبكات من سطوة. وتقول صيدلانية تعمل في شمال العراق حاليا، وفضلت عدم ذكر اسمها، إن هناك تداخلات سياسية في اتفاقات تجار الأدوية لاستيراد الأدوية لصالح شركات معينة، مشيرة إلى أن هذه الاتفاقات سمحت للأدوية الإيرانية بأن تروج في الأسواق برغم أنها غير مرخصة رسميا، وجودتها لا ترقى إلى جودة أدوية مصنع سامراء، وهي تقتصر على مجموعة من الأدوية المهدئة، فيما تراجع إنتاج شركة أدوية سامراء واقتصر حاليا على قسم من شرابات الأطفال والمراهم فقط. لكن الصيدلي وليد الدباغ، الذي كان يشغل منصب مدير الإعلام الدوائي قبل الاحتلال، يقول “إن أحدا لا يمكنه أن يضمن سلامة الأدوية في سوق القطاع الخاص، فهي مقترنة بعمليات تهريب وتحميها مافيات سياسية كون الأرباح المتحققة منها كبيرة جدّا، بسبب ضعف رقابة الدولة على حدود البلد مما يسهل عمليات التهريب وكذلك وجود الفساد الإداري في المنافذ الحدودية الذي يسهل بدوره دخول الأدوية المهربة ومجهولة المنشأ، غير أن الأمر مختلف مع أدوية القطاع العام الحكومي، إذ هي مازالت تخضع لسلسلة رقابية مشددة ومعقدة، قبل أن يسمح بصرفها للمستشفيات”، مضيفا أن “عملية إحالة عقود وزارة الصحة على شركات الأدوية تخضع أيضا لسيطرة سلسلة من المراجع من ذوي الاختصاص من الأطباء والصيادلة، ولذلك يبقى الدواء الداخل عن طريق العقود الحكومية مضمونا بنسبة كبيرة”. ويبدي نفس المتحدّث رأيا في الأدوية الإيرانية بالقول “إن الطعن في جودتها أو تأكيد هذه الجودة هو مسؤولية فحوصات مختبر الرقابة الدوائية الذي تديره كوادر متخصصة، وهي فقط التي تحدد جودة الدواء من عدمه، لكن الأدوية الإيرانية اكتسبت السمعة السيئة بسبب أن غالبية عمليات التهريب تتم من خلال الحدود الإيرانية مع العراق لضعف السيطرة الكاملة عليها بسبب طولها، مما يغري مصنعي أدوية غير قانونيين بإنشاء معامل صغيرة داخل المنازل لغرض تسويق تلك الأدوية للعراق بمواد خام سيئة جدا ولا تحمل أي مواصفة دوائية حقيقية”. ويؤكّد مدير سابق لقسم الأدوية في وزارة الصحة العراقية، فضل عدم ذكر اسمه أيضا، أن الضوابط السابقة لاستيراد الأدوية ما زالت سارية لكنها تخترق بفعل الرشاوى والفساد الذي طال جميع مفاصل الدولة العراقية الآن، إذ يتدخل سياسيون كبار لهم شركات تعمل لحسابهم في هذا المجال ليخرقوا تلك الضوابط بهدف جني أرباح كبيرة لصالحهم. ويختم تصريحه لـ“العرب” بالقول “إن سوق الدواء في العراق أصبح تحت سيطرة ‘حيتان’ كبيرة نجحت حتى في اختراق نقابة الصيادلة”.
مشاركة :