لا شك في أن شخص نجيب محفوظ من بعد حصوله على جائزة نوبل في العام 1988، ومع مضي الأيام على رحيله في 30 آب (أغسطس) 2006، يمر بنوع من «الأسطرة» فيتم إظهاره بصورة إنسانية غاية في النبل، ربما يستحقها لأنه العربي الوحيد الذي حظي بتلك الجائزة حتى الآن، وأعماله كان لها أثر كبير في الحياة الثقافية العربية، ويأتي كتاب «أولاد حارتنا... سيرة الرواية المحرمة» (دار العين) للكاتب المصري محمد شعير، ليؤكد تلك «الأسطرة». أول ما يلفت في الكتاب، هو السؤال إلى أي نوع أدبي ينتمي؟ هل هو سيرة؟ فالسير نوعان، سير ذاتية وغيرية، وهناك التراجم التي تتناول نبذة مختصرة أو مفصّلة عن الشخصيات. وكتاب شعير هو سيرة لشخص أو ترجمة، أو كتاب فهرسة يتناول ما في داخل كتبٍ ما، كما فعل ابن النديم في مؤلفه الشهير. فـ «سيرة الرواية المحرّمة» هو تأريخ لحكاية رواية، جرّت على صاحبها الكثير من المشكلات، وكاد أن يقضي بسببها. فما يقصده الكاتب إذاً بكلمة سيرة هو حكاية بمفهومها العام، إذ أن العمل الذي أمامنا ليس سيرة ذاتية أو غيرية أو حتى سيرة شعبية، وإنما حكاية. وهنا يظهر تساؤل جديد: أي نوع من الحكاية يندرج تحتها، فهل هو رواية على الرواية، فالرواية فن ديموقراطي يقبل تقنيات الفنون الأدبية المختلفة، وهي سرد نثري طويل يصف شخصيات خيالية أو واقعية وأحداثاً على شكل قصة متسلسلة، لكن شعير يسرد أحداثاً يصدرها إلينا على أنها حقائق ولا يوجد أي دور للخيال فيها، فهل يحق لنا أن نصف عملاً حقيقياً تماماً لا خيال في أحداثه أنه رواية؟. فهل نصنفه إذاً على أنها «أدب غير خيالي» على غرار ما تفعله البيلاروسية سفيتلانا ألكسييفيتش الحاصلة على جائزة نوبل في العام؟ لكن ما يقف حائلاً أمام هذا التفسير على رغم البعد الوثائقي الاستقصائي غير الخيالي المشترك بينهما، هو أن توثيق ألكسييفيتش جاء في معظمه مِن لقاءات مع أشخاص عاصروا نكبات ما، فيما اعتمد شعير على صحف وكتب. ومن هنا قد يرى البعض أن كتاب شعير هو استقصاء صحافي اعتمد على البحث في موضوع محدد، والنظر في أعماق هذا الموضوع وتتبع الخيوط كافة ذات الصلة به، ثم العمل على معرفة الأسباب والملابسات والدوافع والأطراف المسببة. لكنني أميل إلى تصنيفه ضمن ما يسمى «تاريخ الأدب»، بما أنه قائم على طرح أسئلة، حول تاريخ نشر النص، وهل نُشر ناقصاً أم كاملاً، وكيف تكوّن، وإلى أيّ نوع من الأمزجة استجاب، وإلى أي نوع من الملابسات خضع في إبداعه... ويلاحظ أن في «تاريخ الأدب» نماذج عدة حول كتب معينة وحقيقة نسبتها إلى أصحابها، منها كتاب «كليلة ودمنة» الذي استشهد به نجيب محفوظ في تحقيقات النيابة معه عندما حدثت أزمة روايته «أولاد حارتنا»: «هذه الشخصية ليست النبي الذي ندين بديانته، لكنها إنسان في الحارة، وإلا فقل لي هل كان واجباً أن نحرق «كليلة ودمنة» والحيوانات فيها ترمز إلى البشر؟ «أولاد حارتنا» هي مثل «كليلة ودمنة» ترسم عالماً متصوراً لتوحي بعالم آخر». ويشار هنا إلى أن الكتابين جرّا على صاحبيهما المشكلات، فقُتل أحدهما، والآخر نجا بأعجوبة من محاولة اغتيال. يهدي شعير كتابه إلى طه حسين ونصر حامد أبو زيد وضِمناً نجيب محفوظ لما عانوه من الجماعات الأصولية، فهذا هو الرابط بينهم. ومن أكبر المشكلات في الكتاب عدم اتباع شعير لأي من المناهج العلمية المعروفة في التوثيق، ربما لأنه لا يعرفها، أو لأنه لا يكتب بحثاً علمياً، لكن الصيغة التأريخية كانت تحتم أن يكون التوثيق منهجياً حتى يستطيع القارئ الرجوع إلى مصدر أي معلومة بسهولة. فمن المشكلات على سبيل المثل عدم ذكره في مواضع كثيرة صفحة الكتاب التي نقل عنها المعلومة ولا طبعته، وأحياناً يذكر معلومة ويوثق لها أنها كانت في لقاء على هامش ندوة، أو في اتصال هاتفي من دون أن يحدد تاريخه، ويكتفي أحياناً بنقل المعلومة قائلاً إنه حصل عليها من فيديو موجود على موقع «يوتيوب»، من دون أن يحدد الوقت الذي فعل فيه ذلك. وأحياناً يذكر المعلومة ولا يأتي على ذكر مصدرها. وأحياناً يذكر المصدر في المتن ولا يذكره في الهامش. وبما أن الحيادية المطلقة يصعب وجودها، نجد مثلاً أن شعير يدافع عن نجيب محفوظ من دافع محبته له ويرفع عنه أي نقيصة، فكل من يهاجمونه «مغرضون» لأسباب مختلفة، منها تزمت ديني من البعض أو حقد من أدباء على نجاحه. وهنا نلاحظ مثلاً أن جل الأخبار المنقولة عن يوسف إدريس داخل كتاب شعير تظهره في صورة الناقم الغيور من إنجازات محفوظ، وأن الكاتب صالح جودت هو أول من لفتَ عبر مقال في مجلة «المصور» إلى أن «أولاد حارتنا» التي بدأت جريدة «الأهرام» حينذاك نشرها مسلسلة تنطوي على إساءة إلى الرموز الدينية، إلا أنه نسب ذلك الرأي إلى قارئ يدعى «محمد أمين»، إلا أن تقصي شعير عن ذلك القارئ أثبت له أنه بلا وجود، ما يوحي ضمنا بتوجيه الاتهام إلى جودت بالتحريض على منع نشر «أولاد حارتنا». ومع ذلك فإن شعير بذل جهداً استقصائياً كبيراً لجمع مادة كتابه، ووضعها في شكل سلس ممتع، مستعيناً بالتقنيات الروائية، وقدم إجابات على أسئلة في غاية الأهمية، فغاية التاريخ الأدبي في المقام الأوّل، تكمن في تنظيم الوقائع ومنحها معنى معيناً، وذلك بمنح معنى إلى الكتّاب والأعمال الأدبية اللذين يشكلان موضوع حكاية أو سرد كما يذكر كليمان موازان في كتابه «ما التاريخ الأدبي؟». وهو ما نجح فيه شعير بذكر التفاصيل الاجتماعية والسياسية والدينية التي أحاطت بخروج العمل، وكيف تلقاه المجتمع، كما يستخرج من النص ما بين ثناياه من أفكار وصور وآراء أخلاقية واجتماعية وفلسفية ودينية. ومن أهم القضايا التي آثارها: هل نشرت الرواية كاملة أم لا، وأن النص الإنكليزي المترجم للرواية يكاد يكون هو الوحيد الكامل لها، فهناك 961 اختلافاً بين النص الذي نشرته «الأهرام»، ودار «الآداب» اللبنانية ما يمثل 1241 كلمة ناقصة. كما يوجه الكتاب إلى أصل المسرحية التي استوحى منها نجيب روايته «الرجوع إلى ميتوزيلا» لبرنارد شو، وهو ما يصلح لدراسة العملين من وجهة الأدب المقارن. كما يلفت شعير إلى ظاهرة منع الروايات في مصر التي لا يكون منعها بقرار رسمي، مثلما هو حادث مع علاء الأسواني في روايته الأخيرة «جمهورية كأن» فليس هناك قرار رسمي لمنعها ونشرها في مصر، لكن الواقع يثبت هذا المنع، ولعل اللافت هنا أن دار «الآداب»، هي أول ناشر للعملين.
مشاركة :