بعض فواجع الزمن حينما تفاجئنا، وتضربنا في أعماق نفوسنا بأخبار فقد من نحب، فإننا صدقا لن نكون أمامها إلا مهزومين، لأنها تصدمنا في عمق مشاعرنا، حتى تجعلنا لا نقوى على صد آهات الحزن، ولا كتم تنهدات الألم، ولا الدموع ستطاوعنا إن أردنا كفكفتها كي تبقى في محاجرها، هذا هو مزيج مشاعري الليلة، ليلة الثلاثاء الثالثة من شهر ذي الحجة، التي لم يكن لها أن تكمل ساعتها في هدوء، وقد اغتسلت منذ غروب شمس نهارها بزخات من المطر؛ حتى يفجعنا القدر برحيل الأديب «شيخ المثقفين في عسير» الأستاذ محمد بن عبدالله الحميّد، رحمه الله، الذي كان قبل يومين من رحيله يحادثني بصوت متهدج عن وضعه الصحي، حينما كنت أشكره على إهدائه الجميل، الذي حمل عطر أنفاسه النقية، كان يقول «يا ولدي، إن كان أبوك قد حبسه منزله، واعتزل الناس، فإني قد أصبحت رهين المحبسين المرض والبيت»، كانت هذه آخر الكلمات التي سمعتها منه، وبها وبذلك الإهداء الحاتمي منه، كنت أشعر في قرارة نفسي كأنما الرجل يودعني، وها أنا أردد الليلة بيتا للبيد بن ربيعة العامري «وما المال والأهلون إلا وديعة...ولا بد يوما أن ترد الودائع». لقد ترك رحيل أبي عبدالله جرحا عميقا سكن نفسي هذه الليلة، فكما قيل «وكل مصيبات الزمان وجدتها...سوى فرقة الأحباب هينّة الخطب»، فلست بناس دعواته المتكررة لي لحضور المسامرات الثقافية التي كان يحتضنها في منزله العامر، بصحبة أبنائه الأدباء، وثلة من أدباء ومثقفي المنطقة، فكنت كلما قلت له يا سيدي «أشعر أني بحضوري كالمتطفل على أهل الأدب والثقافة والكتابة، فاعفني»، فكان يسمعني كلاما جميلا، اليوم لم يعد لي إلا أن أستعيده كشريط لذكرياتي مع الرجل الذي أعلن رحيله. لقد كان الحميد من المثقفين الصادقين الوطنيين، استطاع بما حظي به من خلق كريم، وبعد نظر، وبما حظي به من ثقافة واسعة، وقدرة على النقاش والحوار، واستيعاب كل الاختلافات والآراء وتقبل النقد واحترام الصغير والكبير؛ أن يتحلى «بكاريزما» قلمّا حظي بها شخص آخر شاهدته في حياتي، مما جعله محبوبا عند مختلف التيارات الأدبية والثقافية، وكاسبا لودهم على اختلاف مذاهبهم الفكرية، الذين أجمعوا جميعهم على حب الرجل، واتفقوا على قدرته في كسب احترام الجميع وتقديرهم، وحقا ما قيل عن الرجل، فلم تره عيناي ؛إلا ورأت تلك الابتسامة المشرقة تزين محياه وذلكم التواضع، لقد «تولى وأبقى بيننا طيب ذكره». قلت لأحدهم اتصل ينعيه بصوت باك، لست وحدك من سيحزن عليه أو يبكيه، فالليلة يحق لقرية «سبل» من قرى بني مالك عسير أن تبكيه، وهي التي شهدت ولادته قبل ثمانية عقود وتزيد، ويحق لسيدته أبها الفاتنة أن تبكيه وهي التي أحبها وأحبته، ويحق لمريديه وقرائه وأصدقائه أن يبكوه، فقد كان يأنس بمجلسهم ويدعوهم إلى مجلسه، ويجدر بكل المناصب والكراسي التي شغلها وعرفته، والمنابر التي اعتلاها والحروف التي صادقها والكتب التي سامرها أن تبكي فراقه، فقد كان مخلصا صادقا، وهو يعمل إداريا ومعلما ومفتشا وقائدا تعليميا، ومستشارا، وعضوا بمجلس الشورى، مثلما كان بارزا في كتاباته عبر زاويته «من وحي الوطن» التي ستفتش عن صاحبها، فلا تجده كالعادة يغازلها بحروفه الرشيقة، لقد كان محاربا من أجل دينه وبلاده وولاة أمره، ومخلصا لقيمه، إضافة إلى دوره البارز كعضو مؤسس لمؤسسة عسير للصحافة والنشر، وكذلك مؤسسة عكاظ للصحافة والنشر، هكذا عرفت هذا القامة السامقة في الأدب والثقافة من رجالات عسير الأوفياء لدينهم وبلادهم وولاة أمرهم، فكم هو صعب على نفسي تحمل فراق رجال من مثل أستاذنا ابن حميد رحمه الله. رحم الله محمد الحميد، فلم أجد أحدا من مثقفي المنطقة أو من خارجها من الشباب المثقف أصحاب الأدب، إلا ووجدته يذكر موقفا لابن حميد داعما له، وكيف كان له الفضل بعد الله في تشجيعه، وحفزه على حضور أمسيات النادي الأدبي، ودعمه لنشر نتاجه الفكري، أوتشجيعه ليقدم محاضرة أو أمسية أو مسامرة. رحم الله ابن حميد، فقد كان رغم أوجاع المرض الذي أتعبته وأنهك جسده وقواه، ورغم سنواته التي تجاوزت الثمانين عاما؛ إلا أني لم أره إلا مبتسما متفائلا، مقبلا على الحياة مبتدئا بالحديث، يحمل بداخله هموم الوطن والمجتمع والثقافة ويسكنها بين جنبيه، حتى أن آخر مقالاته كانت صرخة من أجل البيئة «الكربون والبيئة»، ولعلي يوم كتبت مقالي المعنون بـ «الكتاب بين جيلين» كان باعثه المشهد الذي شاهدته عليه رحمه الله، يوم كان يرقد بغرفة العناية، وكان ساعة شاهدته يحتضن رغم المرض كتابا كان يقرأه على ضوء «مصباح» هزني المشهد، إذْ لم يمنعه المرض، ولم تعقه الأجهزة الطبية عن ممارسة هوايته وعشقه القرائي، حتى وهو في غرفة العناية، فكتبت متسائلا: أي جيل هذا؟ رحمه الله، لقد كان استثنائيا في حضوره، وأخلاقه وتواضعه، وكرمه وحبه لأهل الأدب والثقافة، كان استثنائيا في قيادته للنادي الأدبي في أبها قرابة الثلاثين عاما، لقد قيل لي بأنه كان من أول الحاضرين إلى مكتبه بالنادي، وآخر من يخرج من مقر النادي، ولست أدري حتى هذا اليوم «هل هناك معلم بمدينة أبها يحمل اسمه»؟. فالرجل أقل ما يمكن فعله لبقاء ذكره حاضرا في ذاكرة الأجيال، أن نرى ما يخّلد اسمه، فهو يستحق نظير ما قدم لمجتمعه، وسمو أمير المنطقة وفقه الله، من ولاة أمرنا الذين يعرفون لرجالات الوطن قدرهم وتقديرهم. وهنيئا لأستاذنا الراحل ذلكم الذكر الطيب، وما حالة الحزن التي كست الجميع إثر علمهم بخبر وفاته إلا دليل على قدر الرجل في قلوب من عرفه، وكما قيل «وأحسن الحالات حال امرئ...تطيب بعد الموت أخباره»، عزاؤنا لكل فرد من أفراد أسرته، وخاتمة القول «رحمك الله يا أبا عبدالله».
مشاركة :