كانت سعادتي غامرة وأنا ألامس لوحة مفاتيح الحاسوب للمرة الأولى منذ ما يقرب من خمسة وعشرين عامًا، وأتذكر زوجتي وهي تقول لي وقتها: "تعالى أوريك الانترنت بيشتغل ازاي"؛ وجلست بجوارها اطالع بانبهار صفحاته. ثم تركتني وقالت لي: "اتفضل جرب بنفسك ازاى تعمل بحث". ومع الأيام تعلمنا وأصبحنا مهرة في التعامل مع كافة التطبيقات والبرامج.وبدأت قصتي مع مواقع التواصل الاجتماعي، وأشهرها بطبيعة الحال الفيس بوك...الذي رأيناه إبتكارًا مذهًلا، وكانت الفرحة تغمرنا كلما تواصلنا مع صديق افتقدناه من زمن، في وقت لم تكن الهواتف المحمولة قد تحولت إلى الهواتف الذكية؛ فكان حتمًا مقضيًا أن نجلس على أجهزة الحاسوب لنشهد عوالم ما ألفناها من قبل، ونطالع أممًا وأصدقاءً ما لنا عهد بهم. لم تكن مواقع التواصل الإجتماعي آنذاك بالكثرة التي نراها اليوم، ولم يكن المستخدمون لها بهذه الصفات الرذيلة الآن...بل معظمنا كان فرحًا بذلك بالانترنت، الذي كان يعمل بطريقة بدائية آنذاك، وليس بتقنية الواي فاي.وتمضي الدنيا بنا، الغرب يلقى بتلك المواقع في اليم، ونحن ننتشلها من الجب ونجلس أمامها بالساعات الطوال في حالة من الإنبهار واللاشعور؛ لدرجة فقدان السمع والبصر، فيمسك الأبناء داخل البيت الواحد بهواتفهم الذكية ويندمجوا فيها، ويبح صوت الأم في طلب أبنائها لتناول الغذاء، ولا حياة لمن تنادي؛ فهذا وضع في أذنيه وقرًا لأنه يلعب فورت نايت، وتلك أصيبت بالعمى الحيسي لأنها تلعب المزرعة الصينية، وثالث مندمج في قتال الأعداء لأن رصيده من المال الافتراضي ارتفع، ويرتد صوت الجميع للأم المسكينة: "مالناش نفس للغدا دلوقتي، كلوا انتوا". وفقدنا لمة العيلة!وذات يوم رن هاتفي من إحدى زميلاتي، ودار الحديث التالي: هي: انت ليه مش بترد علي؟أنا: التليفون لم يرن.هي: أنا ارسلت لك رسالة على الواتس، ولما ماردتش أرسلتها على الماسنجر، ولما ما ردتش أرسلتها على الفايبر.أنا: ومين قالك إني فاتح البرامج دي؟هي: شايفاك أون لاين.أنا: والله العظيم أنا مش أون لاين.هي: متابعاك، بقالك ساعتين على النت.أنا: لم أمسك الموبايل من أساسه.هي: واضح إن انت مش عايز تكلمني، ما اللى عِلي عِلي.أنا: العفو، لا علي ولا وطي، الفكرة إن الواي فاي مفتوح والبرامج نشطة، ولا يعني هذا أنني جالس على النت! وقلت في نفسي: حسبنا الله ونعم الوكيل، في النت واللي اخترعه. وقررت أن أغلق الفيس بوك، لأنه هيخسرني علاقاتي بالناس. فوجئت بمئات الرسائل تلاحقني على الواتس؟ مالك؟ قافل الفيس ليه؟ ولكي أخلص من هذا الصداع، فتحت الفيس مرة ثانية...فانهالت علي الرسائل: يا حلو صبح، يا حلو طُل، عودًا حميدًا، صلي على رسول الله، استغفر الله 100 مرة، وأذكر ربك إذا نسيت...إلخ وقلت في نفسي: واغوثاه، رب أعن. من أين لهم بالوقت ليتتبعوا كافة تحركاتك، ويرسلوا كل تلك الرسائل؟ وفي الصباح قد يقابلك زميل بابتسامة عريضة، لأنه شاهدك على الفيس مع الباشا؛ ويقابلك آخر بالقبلات -وكأنه يراك للمرة الأولى- وفي المساء يهاتفك: ممكن تتوسط لي عند معالي الوزير! ذات يوم هاتفني أحد أقاربي وبدأ حديثه بمعالي الباشا حبيبنا كلنا اللي كان منور امبارح جنب معالي الوزير المحافظ...والباقي معروف. وفي يوم ما أرسل لي زميل رسالة ذكر فيها كلامًا قبيحًا لأنني انتقدت جماعته. وحينئذ أكتشفت ما أصابنا:تفكك الأسرة وعزوفنا عن بعضنا البعض من أجل متعتنا في عالم إفتراضي، لا يعلم باطنه إلا أنت والأدمن؛ مع فتور في العلاقات الإجتماعية، وترقب وتحفز سلبي.التفريط في أسرار الأسرة والبوح بها على صفحات التواصل طواعية.تآكل اقتصاديات الأسرة مع انحدار الصحة العامة وانخفاض مستوى الأداء.الوقوع فريسة في أيدي أشرار توظفهم قوى خارجية معادية، وقوى داخلية تعمل ضد الوطن.الوقوع فريسة لإشاعات مغرضة تهدف إلى زرع الشك تجاه مؤسسات الدولة، ونثر بذور الشقاق.الإنغماس التام في التراشق أو التهاني والتماسي، التي فقدت معانيها وأثرها الجمالي.والأسوء، أن بعضنا يطلب الإضافة بغية التباهي أو الوصول إلى صديق مشترك أو التجسس للإنقضاض عليك؛ والأكثر سوءً تلك العواطف المصطنعة والمشاعر الزائفة.\وهكذا، بعيدًا عمن نجا من فخاخ الإنترنت، أصبحنا أسرى للآخر عبر شبكاته، وفريسة سهلة المنال في أيدي قوى الظلام التي تستخدم حروب الجيل الرابع وسيلة لتدميرنا...رفقا بأنفسكم أيها الشباب وبأوطانكم، فالإعتدال سُنة، وخير الأمور الوسط.
مشاركة :