الحضارة وأطوار الغريزة والروح والعقل

  • 8/17/2018
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

د. الطيب بوعزة يرى ابن نبي أنه في لحظة ميلاد الحضارة ينتقل الفرد بفعل الفكرة الدينية من التمحور حول الأشياء إلى التمحور حول الأفكار، أي يترقى من مرحلة ما قبل الحضارة إلى التحضر. يقول ابن نبي في كتابه «مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي» (ص 38 ) محدداً ماهية النقلة التي أنجزها الإسلام في المجتمع العربي: في الأصل كان مجتمعاً قبلياً صغيراً، يعيش في شبه الجزيرة العربية، وفي عالم ثقافي محدود، حيث كانت المعتقدات نفسها تتمحور حول أشياء لا حياة فيها، إنها أوثان الجاهلية.فالبيئة الجاهلية تمثل أصدق تمثيل مجتمعاً هو في عمر (الشيء)، ثم جاء الإسلام بكلمة «اقرأ» فمزقت: «... هذه الكلمة ظلمات الجاهلية، وقضت على عزلة المجتمع الجاهلي».ورأى النورَ مجتمعٌ جديدٌ متفاعل مع العالم ومع التاريخ، فشرع بهدم ما بداخله من حدودٍ قبلية ليؤسس عالمه الجديد من الأشخاص؛ حيث كلٌّ صار حاملَ رسالته، وليبني عالماً ثقافياً جديداً تتمحور فيه الأشياء حول الأفكار.» (مشكلة الأفكار، ص39-40)فولدت مرحلة الحضارة، التي يطابق مَاصَدَقُها الزمن النبوي وعصر الخلافة الراشدة، حتى معركة صفين (37 ه). إذ بعد لحظة صفين انتقل المجتمع الإسلامي من مرحلة الروح إلى مرحلة العقل. وهي المرحلة التي تعادل العصرين الأموي والعباسي. فما الذي يحدث في مرحلة العقل؟يحدث فيها ازدهار الحضارة بصيغتها العلمية والفنية، لكن الفكرة الدينية تفقد بالتدريج قوتها، فينشأ في داخل كيان حضارة العقل تحرر الغريزة ؛ ليبدأ الضعف يسري إلى الشبكة الاجتماعية، حيث إذا كانت الروح في المرحلة الأولى قادرة على ضبط الغريزة، والتحكم فيها، فإنه في مرحلة العقل تبدأ الغريزة في التحرر من التحكم بالتدريج. لأن العقل لا يملك قدرة الروح في السيطرة والتوجيه. وفي هذه المرحلة ومع توسع العالم الإسلامي كان من الطبيعي أن سيطرة الروح تخف وتضعف أكثر فأكثر. فتبدأ «الغرائز في التحرر من قيودها بالتدريج على الصورة التي عرفناها في عهد بني أمية. إذ أخذت الروح تفقد نفوذها. كما كف المجتمع عن ممارسة ضغطه على الفرد.» (ميلاد مجتمع، ص 103)وتبدأ الغرائز في توسيع نفوذها، فتستعيد «الطبيعة سيطرتها على الفرد، وعلى المجتمع، شيئاً فشيئاً. فإذا ما بلغ هذا التحرر تمامه، عادت الغرائز إلى سيطرتها على مصير الإنسان» (م س، ص109) ؛ فتنتقل الحضارة إلى مرحلتها الثالثة أي مرحلة الانحطاط، التي تسود فيها الغريزة. حيث تكشف الغريزة «... عن وجهها تماماً. وهنا تنتهي الوظيفة الاجتماعية للفكرة الدينية، وتعود الأشياء كما كانت في مجتمع منحل، ضرب نهائياً في ليل التاريخ، وبذلك تتم دورة في الحضارة.» (م س، ص 110)أي تكتمل الدورة التاريخية بمراحلها الثلاث.وهكذا يتبين أن الحضارة تبدأ عندما يتجاوز المجتمع مرحلة الغريزة إلى مرحلة الروح، وتنتهي عندما تستعيد الغريزة سيطرتها، فيدخل المجتمع إلى مرحلة ما بعد الحضارة، التي تطابق من حيث التعيين التاريخي انهيار دولة الموحدين. إذ منذ تلك اللحظة والعالم العربي الإسلامي يعيش طور ما بعد التحضر.وهذه الدورة التاريخية بأطوارها وقوانينها لا تصدق على الحضارة الإسلامية وحدها، بل «نستطيع - يقول مالك بن نبي - أن نقرر أن المدنيات الإنسانية حلقات متصلة تتشابه أطوارها» (شروط النهضة، ص53).ذاك إيجاز لنظرية ابن نبي في كيفية ميلاد الحضارة ونوعية الشروط المتحكمة في صيرورة التولد والظهور، حتى الانحلال. وهي نظرية موصولة في فكر ابن نبي بقصد آخر يجاوز مجرد التحليل النظري للتاريخ، وهو وضع نظرية في كيفية النهوض بواقع العالم الإسلامي. ومستند النهضة ومرتكزها هو الإنسان. وتثبت المشاهدة - يقول ابن نبي في كتابه «تأملات» ص125- إنه «إذا تحرك الإنسان تحرك المجتمع والتاريخ».

مشاركة :