باريس – رحل صباح الخميس الفنان التشكيلي الفلسطيني سمير سلامة (مواليد 1944، صفد) في أحد مستشفيات مدينة لو مان (250 كم جنوب غربي العاصمة باريس) بعد معاناة طويلة مع المرض، ويعد الراحل أحد رواد الحركة التشكيلية الفلسطينية وسفيرها نحو العالم، كما تتماهى سيرته الذاتية كثيرا مع سيرة الشتات الفلسطيني ومعاناة أفراده. بعد المولد، اضطرت عائلته إلى اللجوء نحو الجليل ومن هناك رحلت إلى بنت جبيل اللبنانية، فعمل الوالد في نقش الحجر، ويقول الراحل في فيلم “ملح الأرض” “أكثر الناس مهارة في دق ونقش الحجارة هم أهل صفد”. مكثت العائلة لفترة قصيرة قبل أن تنتقل إلى بيروت وبعدها دمشق قبل الاستقرار في مدينة درعا السورية، وهناك في الجنوب السوري تفتحت موهبة سلامة وبدأ عشقه لخطوط الرصاص، وتعرف على فنان الغرافيك مصطفى فتحي، الذي سيقيم معارض مشتركة مع سلامة الذي كان طالبا في الثانوية وقتها. بعدها، ستقوده الأقدار في درعا أيضا ليكون طالبا عند أدهم إسماعيل، أحد أبرز أساتذة الفن التشكيلي، فيساعده الأخير للالتحاق بكلية الفنون الجميلة سنة 1967، وفيها سيتتلمذ على يد أساتذة الفن التشكيلي السوري: فاتح المدرس، نصير شورى، نذير نبعة ومحمود حماد. بدأ سلامة بلفت الأنظار إليه في نهايات الستينات، وخاصة مع مشاركته في أول معرض للخريف بدمشق قبل أن ينتقل سنة 1972 إلى بيروت للالتحاق بدائرة الإعلام الموحد التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية، وساهم خلال سنوات ثلاث قضاها هناك في زمن الكفاح الفلسطيني بتأسيس قسم الفنون التشكيلية التابع لمنظمة التحرير وصمّم العديد من “البوسترات” للمنظمة ليتوجه بعدها إلى العاصمة الفرنسية لاستكمال تحصيله العلمي في مدرسة الفنون الجميلة الباريسية. ومع أوراق إقامته الفرنسية ذُكر أن صفد مدينة إسرائيلية فاعترض وتابع القصة قانونيا حتى تم إسقاط إسرائيل من أوراق إقامته، وتم اعتماد ميلاده في جوازه الفرنسي لاحقا كمواليد صفد الفلسطينية. التشكيلي الفلسطيني الراحل تتماهى سيرته الذاتية كثيرا مع سيرة الشتات الفلسطيني ومعاناة أفراده وخلال فترة تحصيله العلمي في باريس وبعدها التدريس في الجامعات الفرنسية ظل الراحل مهموما بالقضية التي تفتحت عيناه عليها، فساهم في تشكيل مجموعة “فنانون من أجل فلسطين” التي ساهمت بشكل كبير بالتعريف بمأساة الفلسطينيين عالميا، كما كان له دور كبير بإطلاق متحف الفنون ومعرض “من أجل فلسطين” الذي أقيم في بيروت بإشراف منى السعودي، والذي تعرضت لوحاته للقصف الإسرائيلي أثناء الغزو الإسرائيلي في يونيو 1982. عاد سمير سلامة إلى فلسطين التي بقيت في وجدانه سنة 1996 وبقي هناك حتى 2004، فعمل خلال هذه الفترة كمستشار للثقافة في رام الله وأشرف كذلك على دائرة الفنون و”صالة الحلاج” قبل أن يغادر فلسطين إلى فرنسا من أجل العلاج. ومنذ شهرين، وهو في ذروة معاناته وصراعه مع المرض، أقام سلامة أربعة معارض متزامنة في فلسطين بكل من القدس، ومعرضين في رام الله، وآخر ببيت لحم، عرض فيها 150 لوحة رصد فيها ذاكرة الأمكنة والطبيعة والريف والأحياء الشعبية والقرى السورية ومجمل رحلته الفلسطينية بلغة بصرية تجريدية وألوان شديدة الغنى، ابتداء من لوحات الرصاص أيام المراهقة في درعا، حيث فيها الشوارع ومعالم المدينة حتى آخر أعماله في 2018، وفي الرحلة الأخيرة إلى فلسطين ذهب سلامة مع أنبوب التنفس الملفوف حول عنقه وأصر على افتتاح معرض وكأنه يلقي نظرة أخيرة على البلاد، وهو يهبها نتاج السنين. وعلى خلاف مجايليه، ابتعد سمير سلامة عن الثيمات المعهودة في التشكيل الفلسطيني كالأرض والمقاومة والنزوح، ومن هنا بدأ تفرده بالاشتغال على ثيماته الخاصة حيث بدا واقعيا وسرعان ما تحوّل إلى التجريدي، وقد ألهمته مدينة معلولا في سوريا إلى ذلك، كما يعيد ويذكر دائما، حيث باتت لوحة “حديقة معلولا” التي أنجزها في التسعينات علامة فارقة في مسيرته الفنية. ويتسع الجمال اللوني والمساحات الخضراء في أعمال الراحل سمير سلامة ليصبحا أكثر خضرة وامتلاء، مقتربا في ذلك من ريشة الانطباعيين دون أن يتماهى معها، حيث ظل تجريديا، فنجد عنده التصوير الواضح للأشكال والمنظور الخطي واللون الجريء، والتي تعطي تدرّجات من الضوء والظل والطقس داخل المشهد في لوحاته المصرّة على البقاء في الهواء الطلق.
مشاركة :