51 عاما على هزيمة يونيو 1967 والكاميرا تدور

  • 8/17/2018
  • 00:00
  • 7
  • 0
  • 0
news-picture

تمر هذا العام 51 عاما على هزيمة يونيو 1967 تلك الضربة القاصمة التي أصابت ثلاث دول عربية مازالت تعاني حتى يومنا هذا من آثارها الكارثية، ولا شك أن صدمة بهذا الحجم تركت تأثيرا كبيرا على السينما، وفي هذا المقال سوف أتوقف عند رصد تأثيرها على السينما المصرية كانت النشأة الحرفية للسينما المصرية، أي كحرفة يتعلّمها السينمائي من خلال الممارسة ودون الاستناد إلى أصول وأسس علمية وفنية، عاملا مهمّا في غياب المدارس والاتجاهات الجمالية والفكرية فيها، وكان العامل الأهم يتمثل في نشأة السينما المصرية في ظل وجود الاستعمار، وبالتالي التبعية الثقافية والفكرية للغرب، ومن ثم فقد جاءت سينما تابعة وهزيلة وظلت في معظم اتجاهاتها تسعى إلى استثمار الفيلم كسلعة ترفيهية أساسا. رغم ظهور بعض الاتجاهات المحدودة والهامشية التي حاولت أن تتخطى الوظيفة المعتمدة لسينما التسلية، من أجل تناول القضايا الاجتماعية والفكرية والسياسية، وكان هذا الاتجاه يواجه عادة بالقمع والتضييق الشديد، فقد كانت شروط الرقابة التي صيغت في عهد الاستعمار شديدة القسوة. وليس من الممكن إرجاع التخلف العام في مسيرة السينما المصرية إلى ما يقال عن تخلف الجمهور نفسه، طبقا للمقولة التي ترى أن السينما ليست في الحقيقة إلاّ تلبية لرغبات واحتياجات المشاهدين (المستهلكين)، فالحقيقة أن العلاقة بين السينما والجمهور في مصر تحكمها عوامل عديدة متشابكة منها على سبيل المثال، خضوع الشريحة الأكبر من سكان المدن للأفكار التي تبثها أجهزة الإعلام التي ظلت دائما في يد الدولة. ومنها أيضا أن النموذج الأكثر شيوعا للسينما الأجنبية التي يشاهدها الجمهور المتعلم نسبيا ظل دائما منحصرا في اتجاه واحد هو السينما الأميركية، أي أفلام سينما هوليوود التجارية الشائعة، ومنها أيضا أن الرقابة على السينما في مصر وهي رقابة مفروضة على الفيلم المصري من مرحلة السيناريو وقبل وبعد التصوير، هي رقابة تخضع أساسا لتوجهات السلطة السياسية، كما تحكمها مؤسسات أخرى مثل مؤسسة الأزهر. وفي الستينات، تصوّرت الدولة أنها يجب أن تمد سيطرتها ولو جزئيا على الإنتاج السينمائي، ليس بهدف التحكم الكامل في عملية الإبداع السينمائي، فسينما التسلية لم تكن تمثل بما تنتجه أي خطورة على المؤسسة الحاكمة، ولكن لكي تتمكن من تأكيد بعض توجهاتها السياسية والاجتماعية في عدد من الأفلام التي تموّل الدولة إنتاجها. فيلم "ثرثرة فوق النيل".. جسد مجتمع الهزيمة فيلم "ثرثرة فوق النيل".. جسد مجتمع الهزيمة في تلك الفترة ظهرت بعض الأفلام الجيّدة التي تعكس طموحا سينمائيا للتعبير عن القضايا الاجتماعية من إنتاج ما عرف بـ”القطاع العام السينمائي” مثل “البوسطجي” لحسين كمال، و”الحرام” لهنري بركات، و”المتمردون” لتوفيق صالح، و”جفت الأمطار” لسيد عيسى، و”القاهرة 30” لصلاح أبوسيف، و”الجبل” لخليل شوقي. أصداء الهزيمة غير أن هزيمة 1967 مثلت أهم قضية شغلت المثقفين المصريين وظلت كذلك لأكثر من عقدين من الزمان، وهو ما انعكس على إبداعاتهم المختلفة في المسرح والرواية والشعر، وامتد هذا الاهتمام إلى السينما وإن بدرجة أقل. بعد فيلم “الأرض” الذي أخرجه يوسف شاهين عام 1969، وقدّم فيه رؤية واقعية لعلاقة الفلاح المصري بأرضه مصوّرا صموده في وجه مغتصبيها من الإقطاعيين، وارتباط الإقطاع بالقصر الملكي بالاستعمار البريطاني، قدّم شاهين عام 1970 فيلم “الاختيار” الذي يطرح فيه قضية تمزق المثقفين المصريين وعجزهم عن تحقيق الانتماء الحقيقي للواقع، وتشتتهم بين الدفاع عن أفكارهم وبين نزعات التطلع للصعود الاجتماعي التي تؤدي بالكثيرين منهم للوقوع في براثن الانتهازية، والإصابة بنوع من الانفصام النفسي والاجتماعي، مشيرا إلى مسؤوليتهم، لو بشكل غير مباشر، عن الهزيمة. ويتناول فيلم “ثرثرة فوق النيل”(1971) لحسين كمال (عن رواية لنجيب محفوظ)، مجتمع الهزيمة، مصوّرا تمزق وعي المثقفين وانعزالهم عن الواقع من حولهم داخل “عوامة” مهتزة في النيل، إلى أن يجدوا أنفسهم في النهاية، متواطئين جميعا في جريمة بشعة وقعت نتيجة استهتارهم ولامبالاتهم هي معادل للهزيمة السياسية والعسكرية التي ابتليت بلها مصر في 1967. ويتركز اهتمام الفيلم على ما نراه على الشاشة من فضائح وعلاقات شاذة وانتهازية في السلوك بشكل العرض المجاني المنفصل عن السياق اكتفاء بالتركيز على سحابات المخدرات، معتبرا أن هذا معادل كاف لتصوير المجتمع الذي أدى إلى وقوع الهزيمة. ولا يبتعد صلاح أبوسيف كثيرا عن تلك الرؤية المغلفة بالاستعارات والمبسّطة بالمعادلات الرمزية في فيلمه “حمام الملاطيلي” (1973) في تناوله لصورة مجتمع الهزيمة، فهو يعيد مجددا نسج خيوط درامية واهية تدور حول المرأة التي تهرب من قريتها لكي تقع في براثن مجتمع العاصمة الذي تشيع فيه أجواء الهزيمة، وتتبدى فيه مظاهر التفسخ الاجتماعي والقيم الانتهازية والشذوذ. وفي محاولة لتقديم صورة لما عرف وقتها بـ”أزمة الشباب” يقدّم الفيلم نمطا لأرستقراطي عاطل بالوراثة يعيش محاطا بكل أنواع الترف والشذوذ الاستهلاكي، داعيا إلى تحرّر الشباب على نحو فوضوي بوهيمي. أما الشاب الريفي الذي هاجر من إحدى مدن ضفتي قناة السويس إلى القاهرة، فهو أيضا يقع في شراك التدهور الأخلاقي السائد في العاصمة حتى داخل ذلك الحي الشعبي الأصيل الذي أصبح مرتعا للصوص والنشّالين والمنحرفين، تتربصّ به زوجة صاحب الحمام الشعبي إلى أن توقع به في براثنها. أما الشخصية الوحيدة بين الجميع التي تظل حتى النهاية متماسكة، تمتلك الوعي بما يدور في الواقع، فهي شخصية المجذوب المشعوذ الهائم على وجهه الذي يظل يصرخ مذكرا الناس بأمجاد المقاومة الشعبية في زمن الحملة الفرنسية على مصر في محاولة لاستنهاض الهمم بصيحاته التي أثارت سخرية المشاهدين. نجيب محفوظ أكثر من أثرى السينما المصرية بروايات شرّحت الخيبة، ويوسف شاهين وثق الهزيمة في ثلاثية سينمائية نجيب محفوظ أكثر من أثرى السينما المصرية بروايات شرّحت الخيبة، ويوسف شاهين وثق الهزيمة في ثلاثية سينمائية وفي عام 1972 صرح يوسف شاهين بأنه تخلى تماما عما أطلق عليه “سينما التسلية البورجوازية”، وهو يتناول في “العصفور” ما وقع عام 1967 استنادا إلى سيناريو للكاتب لطفي الخولي، مشوبا بالرموز والكنايات، يصوّر الفترة التي سبقت وقوع الهزيمة في مصر موجها إدانة قوية لمثقفي الطبقة الوسطى وناقدا بشدة علاقات الاستغلال والانتهازية التي حكمت مصالح “الطبقة الجديدة” من البيروقراطيين والعسكريين تحت شعارات التضليل السياسي، ويعتبر الفيلم أحد أفضل ما صنع من أفلام عن الهزيمة جنبا إلى جنب مع فيلم “زائر الفجر” (1973) لممدوح شكري. وواصل شاهين نقد المجتمع الناصري في فيلمه التالي “عودة الابن الضال” (1976) من خلال ميلودراما موسيقية. الجيل الجديد مع بروز مجموعة كبيرة من كتاب السيناريو والمخرجين الجدد الذين درسوا السينما في المعهد العالي للسينما في القاهرة، بدا أن السينما المصرية يمكن أن تشهد نقلة نوعية نحو التعبير عن “الوعي الجديد” الذي خلقته الهزيمة، غير أن ما حدث أن النقلة كانت حرفية أكثر منها فكرية، وكان التراكم كميّا أكثر منه نوعيا. استطاع الجيل الجديد من المخرجين إدخال تعديلات جوهرية على طريقة بناء السيناريو والاستفادة من الأساليب الحديثة في تقنيات إخراج المشاهد، غير أنهم ظلوا، على نحو ما، أسرى لنفس الفكر السطحي القديم. وفي السبعينات برزت أسماء لمخرجين جدد مثل سعيد مرزوق وأشرف فهمي وعلي بدرخان ومحمد راضي وعلي عبدالخالق وممدوح شكري، هؤلاء درسوا السينما وتخرجوا من معهد السينما بالقاهرة، وعاصروا فترة شهدت فيها مصر نشاطا ملحوظا في مجال الثقافة السينمائية: تأسيس نادي سينما القاهرة عام 1968، ونوادي سينما الأقاليم عام 1969، وصدور مجلة سينمائية متخصّصة، وتأسيس جماعة السينما الجديدة عام 1968 التي دعت في بيانها الأول إلى تأسيس سينما جديدة تتخلص من الأشكال التقليدية، وتأسيس جمعية نقاد السينما المصريين، أول تجمع من نوعه لنقاد السينما الجادين في مصر عام 1972. وقد تأثر مخرجو السبعينات بالتيارات الجديدة الوافدة مثل الموجة الجديدة الفرنسية والسينما الحرة في بريطانيا، وحركة السينما الطليعية الأميركية، إلاّ أنهم رغم طموحهم النظري الكبير، كان عليهم مواجهة القوالب الإنتاجية السائدة منذ سنوات عديدة في السينما المصرية. كان الهمّ السياسي-الاجتماعي يسيطر كثيرا على فكر السينمائيين الجدد من جيل السبعينات، فقد كان عقد السبعينات مرحلة انتقالية من العهد الناصري المشحون بشعارات التغيير الثوري الاجتماعي وصولا إلى الهزيمة العسكرية المخزية في 1967، إلى عهد آخر يطرح شعارات جديدة عن إزالة آثار الهزيمة وتحقيق الرخاء الاقتصادي باتباع سياسة الباب المفتوح واقتصاد السوق. فيلم "الأرض" ليوسف شاهين.. صمود وكبرياء فيلم "الأرض" ليوسف شاهين.. صمود وكبرياء وقد عكست الأفلام الأولى لجيل السبعينات هموما تتعلق بمحاولة فهم ما حدث من هزيمة سياسية وعسكرية فادحة، ونقد المجتمع الشمولي والفكر الواحد والقمع السياسي الذي شمل مثقفي الطبقة الوسطى من اليمين ومن اليسار دون تفرقة. في فيلم “الخوف” (1972) حاول سعيد مرزوق التعبير عن آثار الهزيمة العسكرية على المجتمع، ولكن من خلال شكل رمزي يتجنّب المباشرة ويغرق في الغموض، فيرجع الهزيمة إلى “الخوف” الكامن لدى الشباب من مواجهة الواقع، وعجزهم عن كسر حاجز الخوف في داخلهم والتغلب على أسبابه الكامنة في الخارج، ويرمز الفيلم للاستبداد المخيف من خلال شخصية حارس عمارة سكنية تحت الإنشاء يلتقي فيها بطلا الفيلم اللذان يعيشان قصة حب غير مكتمل، لا تصل إلى التحقّق أبدا بسبب الخوف والعجز عن الفعل. في فيلم “زهور برية” (1973) يتابع المخرج وكاتب السيناريو يوسف فرنسيس محاولة شاب وفتاة من جيل الهزيمة، الهجرة من مصر بحثا عن فرصة عمل أفضل وحياة أخرى أكثر تحررا في أوروبا، ولكن بدلا من التركيز على التفاصيل التي تجعل الشباب يحلمون بالهجرة إلى الخارج، يحاول فرنسيس الربط قسرا بين أزمة البطالة وبين أزمة الإنسان المعذب بالهم الوجودي في كل مكان من جراء الحروب المدمرة، خاصة حرب فيتنام في ذلك الوقت، فترى مواجهة بين بطلي الفيلم وشابين من المجندين الهاربين من الجيش الأميركي تسوقهما الأقدار إلى الصحراء الغربية في مصر. سوف يستمر النقد السياسي في ما بعد، ولكن على مستوى يخدم توجهات السلطة الجديدة في عصر أنور السادات، التي كانت تريد التنصّل من أخطاء التجربة الناصرية، وتطرح رؤية جديدة لما أطلقت عليه “الانفتاح الديمقراطي”، الذي تم ربطه بسياسة “الانفتاح الاقتصادي” وقد أفرزت تلك الحقبة أفلاما أخرى ذات طبيعة مختلفة، وهو ما يقتضي وقفة أخرى.

مشاركة :