«عازف الكمان» لموشتيلد بورمان ... موسيقى للنسيان

  • 12/23/2014
  • 00:00
  • 9
  • 0
  • 0
news-picture

أصدرت دار «لوماسك» في باريس في 2014 رواية «عازف الكمان» للألمانية موشتيلد بورمان. الكاتبة المولودة عام 1960 والتي أصدرت خمس روايات منها رواية «كسر حاجز الصمت» التي نالت بها جائزة أفضل عمل روائي في ألمانيا سنة 2012. الرواية نقلتها إلى الفرنسية سيلفي روسال ويمتزج فيها نوعان من السرد: واقعي وتاريخي، وهو امتزاج عرفت الكاتبة كيف تتدبّره في شكل فني مكّن عملها من أسباب توهّج دَلالاته الاجتماعية والسياسية والحضارية. توزّعت الرواية على ثلاث حكايا اختصّت كل واحدة منها بتوصيف مصير شخصية من شخصياتها: العازف إيليا فاسيلوفتش غرينكو، وزوجته غالينا، وحفيدهما ساشا غرينكو. وهم أفراد عائلة روسية عاشت على امتداد جيليْن كلّ صنوف التشرّد والمأساة ضمن فضاء جغرافي شاسع شملت حدودُه أحد سجون الاتحاد السوفياتي وصحراء كازاخستان ومدن ألمانيا. ومن عجينة هذا التشرّد انكتب لهذه العائلة تاريخ أليم هو تاريخ عائلة منذورة للموت الغامض، وتاريخ وطن مكتظّ بالخيانة والحقد، وتاريخ عنف سياسي لأيديولوجيا شمولية ظلّت تحكم الواقع الروسي من العهد الستاليني إلى الآن. إيليا فاسيلوفتش غرينكو عازف كمان روسي ذو شهرة كبيرة داخل روسيا وخارجها، عُرف بمهارة أدائه لموسيقى تشايكوفسكي مستعملا آلة «كمان» فريدة كان ورثها عن جدّه، الذي كان بدوره عازفاً ماهراً، وقد أهداها له القيصر الكسندر الثاني عام 1862. كان إيليا غرينكو مسكوناً بالموسيقى، وممتلئاً بها حدّ الجنون، بل هو إذ يعزفها يمنحها روحاً أخرى تعانق بحميمية أرواح جمهوره الذي لا يغيب عن حضور سهراته حضوراً كثيفاً. في سنة 1948، أحيا إيليا عرضاً موسيقياً بالمسرح الروسي اهتاج فيه الجمهور لمعزوفات تشايكوفسكي وصفّق لها طويلاً. وعندما أنهاه، اقتادته مجموعة من البوليس السرّي (KGB) إلى غرفة التحقيق دون السماح له برؤية زوجته التي كانت تنتظره في مقدّمة الجمهور، وهناك افتكوا منه «كمانه» واتهموه بخيانة الوطن. وتحت وطأة التعذيب، أُجبر على الإمضاء على اعترافات لم تصدر منه، وجاء فيها أنه معارض سياسي للشيوعية وأنه بصدد التخطيط للهرب من بلاده إلى النمسا، وقد تبنّى تلك الاعترافات الملفَّقة شرط ألاّ تتأذّى عائلته: زوجته غالينا، وهي ممثِّلة مسرحية، وابناه أوسيب وبيتر. وبموجب تلك الاعترافات أيضاً تمّ الحكم عليه بالسجن لمُدّة عشرين عاماً كان خلالها يعوّض ما فيها من ألم الوحدة والتعذيب والقهر بالحنين إلى زوجته وبتمني رؤية ابنيْه. ولكي يُمعن البوليس السياسي في تشويه صورة هذا العازف لدى عائلته، أعلم زوجته بأنه كان ينوي التخليّ عنها والهرب وحيداً إلى فيينّا، ثم فرض أعوانُه عليها الرحيل إلى كازاخستان. وهناك، تفتح الرواية باباً على مصير هذه الزوجة التي رُميَ بها في العراء، حيث تُضطرّ إلى خياطة أسمال طفليها والعمل ليلَ نهارَ كي توفّر لهما لقمة العيش بعد حياة الشهرة والعزّة. غير أنّ يقيناً ظلّ يلحّ عليها باستمرار ويوحي لها باستحالةِ أن يكون زوجها قد فكّر يوماً في خيانة وطنه أو في التخلّي عن عائلته، وهو أمر عرفت الرواية كيف تستثمره لتكشف عمّا يعتمل في وجدان هذه المرأة من عواطف زوجية صادقة مكّنتها من الصمود أما تنامي أزمتها الاجتماعية التي سبّبت في ما بعدُ هجرةَ ابنيها القسرية إلى ألمانيا وزادت من تشتّت الأسرة كما لو كانت منذورة دوماً للمأساة. ساشا غرينكو، وهو حفيد إيليا غرينكو، يعمل في شركة أمنية ألمانية لحراسة الشخصيات والمؤسّسات، يتلقّى في العام 2008 مكالمة من أخته فكتوريا - بعد أن تمّ التفريق بينهما على إثر مقتل والديهما في حادث مرور مريب لمّا كانا صغيريْن - تخبره فيها بكونها تتعرّض إلى تهديد بالقتل، فيهبّ إلى نجدتها، غير أنه وجدها مقتولة في شقّتها، وإذّاك يسرع في مغادرة المكان حتى لا يُتَّهم بقتلها. ثم نلفيه يقرّر البحثَ عن تاريخ عائلته وغايته الكشفُ عمّا فيه من أسرار غريبة عنوانُها السجن والتشريد والقتل الغامض. فيقصد روسيا بتعلّة البحث عن «كمان» جدّه إيليا. وهناك، تتكشّف لديه مجموعة من الحقائق: فإذا به يقف بعينه على أن جدَّه عازف الكمان لم يخن وطنه ولم يتخلّ عن عائلته، وإنما هو أُجبر على أن يعيش مأساة السجن بكلّ عذاباته بسبب وشاية من أحد رجال الأعمال السوفيات الذي كان يغار من نجاحه وشهرته، كما أنّ الواقع المأساوي الذي كان يرزح تحت وطأته المواطن الروسي المحكوم بقبضة ستالين الحديدية خلال فترة الخمسينات لا يختلف كثيراً عمّا هو عليه الحال في عهد روسيا الراهنة التي لا تزال تتفشّى في سياستها ثقافةُ العنف والإجرام والإقصاء. وهي ثقافة عاش الحفيد ساشا بعضاً من تجلياتها خلال بحثه عن تاريخ عائلته، حيث نلفيه يقع بدوره بين براثن المافيا الروسية (براتفا) التي تنامت جرائمها بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وتنوّعت شبكاتها الحالمة بعودة الشيوعية، ما ينبئ القارئ بتكرّر مأساة الجدّ في شخص الحفيد، ويحيلُ على أن الأنظمة الشمولية لا تعرف غير العنف سبيلاً إلى تسيير شعوبها والجلوس على رقاب مواطنيها من دون احترام منها لشروط التعامل الإنساني. والذي نخلص إليه من قراءة رواية «عازف الكمان» هو تقرير مجموعة من الملاحظات منها قدرةُ الكاتبة على السيطرة على مسار الحكاية وتأثيثها بحقائق تاريخية ساعدت على تنامي فضول القارئ في معرفة الواقع الروسي بماضيه وحاضره، واتكاؤُها على جملة سردية خفيفة قادرة على تجزئة تفاصيل الأحداث وملامح الشخصيات ونفسياتها وتوصيفها بدقّة متناهية، وشحنُها لكلّ حدث ترويه بإيحاءات سياسية أو اجتماعية أو حضارية بليغة، ونزوعُها إلى جعل الرواية عملاً فنياً يُخلِصُ لوظيفته الإنسانية وبخاصة منها ردّ الاعتبار لكلّ من ظُلموا أو قَضَوْا نحبَهم بسبب عنف النظام الشيوعي الستاليني.

مشاركة :