«التقشف» بين احتمالية أن يكون منقذاً وواقع أن يكون مهلكاً

  • 8/18/2018
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

يتمثل دورهُ الأهم -كما يصفُ نفسهُ- بأداء دور «شرطة الهراء».. فهذا التوصيف اللافت، هو ما يطلقهُ الاقتصادي الأسكتلندي (مارك بليث)، على نفسه، إلى جانب دورهُ كأكاديمي، وأستاذ لعلم الاقتصاد الساسي بجامعة برون. ففي كتابه «التقشف؛ تاريخ فكرة خطرة» الصادر ضمن سلسلة «عالم المعرفة»، يكشفُ لنا (بليث) بأن التقشف لا ينجح «باعتباره طريقاً إلى النمو والاستجابة السليمة لتداعيات الأزمة المالية في امتحان السلامة»، كما أنهُ يرفضُ فكرة التشقف لأنها «هراء خطر»!كلنا يعلمُ الأثر الذي خلفتهُ الأزمة المالية التي وقعت في العام (2008)، مخلفة انفجار النظام المالي العالمي، ما أفضى لـ«ثقب بحجم ترليوني (2000 مليار) دولار في الزمكان المالي»، كما يوصف (بليث) في فيديو قصير على (اليوتيوب)، مستعيراً لغة الفيزياء، لتوصيف مدى فداحة تلك الأزمة، التي ستكون المرجع، وسيشبعها تحليلاً في الكتاب، الذي قسمهُ إلى سبعة فصول، موزعة على ثلاثة أجزاء: لماذا علينا جميعاً أن نتقشف؟، التاريخان التوأمان للتقشف، وأخيراً الاستنتاج. بادئ ذي بدء، يتساءل (بليث): لم التقشف؟ مبيناً «إن التقشف شكل من أشكال التقليص الطوعي التي يتعدل الاقتصاد فيها عبر تخفيض الرواتب والأسعار والإنفاق العام بهدف استرجاع التنافسية، التي تتحقق (فرضياً) بأفضل وجه بتخفيض موازنة الدولة وديونها وحالات العجز فيها». بيد أن ذلك «لا يفيد»، كما يؤكد (بليث)، من خلال استعراضه لعدد من المعالجات التي تبنت التقشف في الدول الاقتصادية الكبرى، مضيفاً «بما أن التقشف ببساطة غير مفيد، فهذا السبب الأول لكونه فكرة خطرة. لكنه فكرة خطرة أيضاً لأن الشكل الذي يقدم فيه التشقف من السياسيين ووسائل الإعلام معاً –باعتباره رداً على شيء اسمه (أزمة الديون السيادية) المفترض أن سببها هو دول (أفرطت في الإنفاق) على ما يبدو- هو تمثيل للحقائق خاطئ جذرياً إلى حد كبير». ولا يجهلُ (بليث) بأن التقشف فكرة بديهية، إذ «لا يمكن للمرأ أن ينفق للوصول إلى الازدهار، خصوصاً حين يكون مديوناً»، بمعنى أن أحداً لا يستطيع أن يعالج الدَّين بالدّين، وهذا صحيح، «لكن التفكير بهذه الطريقة في شأن الدَّين لا يكفي، كما لا يطرح السؤال المهم المتعلق بالتوزيع: من يدفع ثمن تقليص الدَّين، وماذا يحصل إن حاولنا جميعاً تسديد ديوننا في الوقت نفسه؟». يوصلنا ذلك إلى خطورة سياسات التقشف، التي يختلف الشعور بتداعياتها حسب (هرم توزيع المداخل)، «فالذين في أسفل الهرم يخسرون أكثر ممن هم في قمته لسبب بسيط مفاده أن الذين في القمة يعتمدون أقل على الخدمات التي تنتجها الحكومات»، إلى جانب حقيقة اقتصادية، يؤكدها (بليث)، مفادها «إننا لا نستطيع تخفيض النفقات وتحقيق النمو في الوقت نفسه». لا ينكرُ (بليث) بأن التقشف يعمل في إطار مجموعة محددة للغاية من الشروط، بيد أنهُ يفشل «فشلاً ذريعاً عندما تكون هذه الظروف غائبة»، كما أن اللجوء للتقشف لعدم وجود البدائل، ليس بالحل، «فثمة دائماً بدائل»، كما يقول، موضحاً سبب إصراره على فشل سياسات التقشف، لكونه فكرة محورية في حوكمة الدول والأسواق، لكن ما يميز التاريخ الفكري للتقشف هو أنهُ قصير وسطحي، «ولا توجد (نظرية تقشف) مطورة في شكل جيد في الفكر الاقتصادي تعود إلى الوراء بالزمن إلى بعض البيانات الأساسية التي أصبحت أكثر منهجية وصرامة بمرور الوقت». وعلى ذلك يبين (بليث) بأن الولايات المتحدة، وبريطانيا، والسويد، وألمانيا، واليابان، وفرنسا، جربت التقشف خلال عشرينيات القرن الماضي وثلاثينياته، فأوصلها ذلك إلى تحطيم المجتمع الذي كانت تفرض عليه سياسات التقشف، «لقد جرب التقشف وجرب مرة أخرى –ولم يكن تطبيقه ناقصاً- وهو ببساطة لم ينجح. وفي الواقع، جعل تطبيقه المتكرر الأمور أسوء، وليس أفضل، وفقط عندما توقفت الدول عن السعي إلى التقشف بدأت في التعافي»، وبذلك يضعُ (بليث) سبباً لاشتعال العالم في الأربعينيات (الحرب العالمية الثانية)، إذ يرى بأن التقشف «أدى إلى ركود أعمق وأطول، ويمكن القول إنه وضع الأسس للحرب»، بل، أكثر من ذلك على مر التاريخ كما يقول «لقد جلب إلينا بدلاً (من السلام والازدهار والانخفاض المطرد للديون)، سياسات طبقية، وأعمال شغب وعدم استقرار سياسي، وديوناً أكثر وليس أقل، واغتيالات، وحروباً. ولم ينجز مرة واحدة قط ما وعد به». كما أن سياسات التقشف «طبقت بقوة استثنائية خلال الأزمة المالية الأوروبية الحالية، وأنتج بالضبط الفشل نفسه، الذي يتوقعه المرء إذا تقصى التاريخ الفكري والطبقي السابق للتقشف»، وهذا ما يصفخ (بليث) بـ«الغطرسة المعرفية والإصرار الأيديولوجي». ومن أوروبا إلى أمريكا، يوضحُ (بليث) بأنهُ إبان الأزمة المالية العالمية، اعتقد بأن إنقاد المصارف، كما فعلت الولايات المتحدة، شيء صحيح، نظراً لعدم وجود البدائل، إلا أن منطق غياب البدائل هذا، ليس منطقاً حقيقياً نظراً لوجود البدائل دائماً كما يؤكد، لهذا يقول «عندما ننظر الآن في تكاليف هذا القرار، أنا لم أعد متأكداً من أنه كان الشيء الصحيح الذي ينبغي عمله»، مضيفاً «ربما كان يجب علينا السماح بإفلاس المصارف». ذلك لأن البديل، أي دعمها، أنتج عشر سنوات من التقشف، «نحنُ حقاً في حاجة إلى إعادة التفكير فيما إذا كانت تكاليف تفاقم الأخطار النظامية أسوء من التقشف الذي لدينا أصلاً الآن، ولا نزال نضع أنفسنا فيه». لقد أنتجت هذه السياسة التي أتخذتها الحكومة الإمريكية إلى تسلسل، «أدى الإنقاذ إلى دين، وأدى الدَّين إلى أزمة، وأدت الأزمة إلى التقشف»، ويقارن (بليث) هذه الحالة، بالحالة أيسلندا وإيرلندا، قبل الأزمة المالية وبعدها، فالأخيرة أنقذت مصارفها وحكمة على نفسها بجميل من البؤس، من خلال التقشف وأنقاذ مصارفها، إذ «خفضت رواتب العاملين في القطاع العام بنحو 20%، في حين زيدت الضرائب التنازلية ورسوم المستخدم. وخفضت الإنفاق على الرعاية والإنفاق الاجتماعي في شكل حاد، وانكمش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة -2.97% في 2007، و-6.99% في 2008، و-0.43% في 2010. وعاد النمو المنخفض في 2011، لكن عند مستوى معتدل جداً بلغ 0.71%. لكن حتى هذا النمو المعتدل مشتبه به». على الجانب الآخر، كانت أيسلندا في مأزق، لكنها سمحت لمصارفها بأن تفلس «وخضفت قيمة عملتها وفرضت ضوابط على رأس المال وعززت تدابير الرعاية»، لذلك «لم تنجُ أيسلندا بالسماح لمصارفها بأن تفلس فحسب، بل أصبحت كذلك معجتمعاً أكثر صحة وأكثرة مساوة حين فعلت ذلك». ومن خلال هذين البلدين الصغيرين، وما تعرضا لهُ، يستخلص (بليث) «درسان أساسياً من دروس التاريخ الطبيعي من التقشف. أولاً، عندما تخالف دولة في شكل تام قواعد اللعبة الخاصة بالتقشف، لن تنجو فحسب، بل ستزدهر أيضاً. ثانياً، قبل كل شيء عليها عدم إنقاذ المصارف الخاصة بها». ويؤكد (بليث) على أن التقشف يعني الضرائب وزيادتها، تلك التي «لا يحبها أحد»، لهذا هو يقترحُ (القمع المالي)، مؤكداً أن اتباع هذا البديل «سيحد بشكل كبير من فرصي لشراء المشتقات الغريبة والاتجار بها والمشاركة في ألعاب المراجحة المالية الدولية، لكن هل تعرف شيئاً؟ أنا على استعداد للتخلي عنها. بعد 30 سنة من ذهاب المكاسب كلها والتخفيضات الضريبية كلها إلى الأشخاص الذين جلبوا لنا الفقاة، آن أوان الثأر»، ويتابع، بأن هذا الثأر، ليس بسبب حركة (احتلوا وول ستريت)، ولا هو بسبب تفضيلاتهُ الشخصية، «بل لأنه أمر أسهل بكثير وأكثر فاعلية مقارنة بفرض التقشف الجالب للهزيمة الذاتية المحتم أن يحدث». ويختمُ (بليث) كتابهُ بالقول «جرب التقشف وسيبقى يجرب، على الأقل في منطقة اليورو، إلى أن يتخلى عنه أو يسقط بالتصويت العام. هو لا ينجح. في الواقع، وكما رأينا مراراً وتكراراً، هو يجعل الدَّين أكبر وليس أصغر. وبالتالي فإن الدَّين موجود، ويجب تسديده أو إسقاطه. ونظراً إلى أن الإعفاء أمر غير محتمل إلا في كرسي الاعتراف، وأن الخيارين الآخرين، التضخم والتوقف عن التسديد، أسوأ منه، لا مفر إلى حد كبير في مدى السنوات القليلة المقبلة من القمع المالي، وستصبح زيادة الضرائب على أصحاب المداخيل الأعلى جزءاً من المشهد».

مشاركة :