وصلنا إلى مرحلة لا نستطيع التفكير معها بالعيش منفصلين عن أجهزتنا الذكية وهذا ما يجعل شركات التكنولوجيا تجني أرباحا طائلة من وراء هذه “الحالة المرضية”، وتستغلها الشركات المتخصصة في الدعاية والإعلان لتحقيق العوائد، لذلك لا يجب التعويل على عمالقة الإنترنت لمحاربة التعلق المرضي بالهواتف الذكية لدى المستخدمين، بل يجب على المستخدمين أنفسهم خلق عادات جديدة للسيطرة على حياتهم. لندن - بدأت شركات التكنولوجيا العملاقة مؤخرا، في الترويج لميزات جديدة تحارب تشتيت الانتباه الذي تتسبب به الهواتف الذكية، وابتكرت أدوات تتعقّب استخدام الهاتف، أو تذكّر المستخدم بإيقاف مشاهدة مقاطع الفيديو على يوتيوب. ومع أن هذه الأمور موضوع ترحيب، إلا أنها فاترة وبطيئة الوصول. لا يجب التعويل كثيرا على جهود شركات الإنترنت في هذا الميدان، بالنظر إلى ما تجنيه من تعلق الأشخاص بهواتفهم الذكية، حيث تحقق شركات التكنولوجيا، ولا سيما فيسبوك وغوغل، أرباحا من خلال توجيه انتباه المستخدمين إلى المعلنين. ووفقا لما ذكره تيم هارفورد في تقرير نشرته فايننشال تايمز، فإنه كلما زاد الاهتمام لديهم (الأشخاص)، تمكنت تلك الشركات من بيع المزيد. وهناك حد لمدى المساعدة المتوقعة منها في تمكين الأشخاص من استعادة السيطرة على حياتهم بعيدا عن الشاشات. ويقول هارفورد إن مشاهد عديدة رائعة لفتته حين زيارته إلى مدينة فينيسيا الإيطالية، لكن المشهد الذي بقي عالقا في الذاكرة، أنه في كل أنحاء المكان هناك أشخاص يحدقون في شاشات هواتفهم وهم يلعبون لعبة إلكترونية أو يتصفحون حساباتهم عبر إنستغرام، رحلتهم في القارب تمنحهم فرصة مشاهدة منظر رائع لمدينة فريدة من نوعها ليس من السهل زيارتها أو تحمل تكاليفها المالية. ومع ذلك، هم يشعرون بأنهم مضطرون إلى التغاضي عن بعض المشاهد التي دفعوا ثمنا باهظا، للتحديق في هواتفهم لملاحقة آخر ما وصلهم من إشعارات أو مطاردة هوس نشر الصور على مواقع التواصل الاجتماعي. الجميع عالقون مع أجهزتهم الإلكترونية. في أي لحظة يمكن للأجهزة أن تطالب بأن تركز عليها عندما يرن جرسها، أو تصدر صوتا، أو حتى تهتز بالإصرار على طلب الإجابة. فهي أجهزة تتطور باستمرار لتقوم بذلك بشكل أكثر فعالية. لهذا السبب يقضّي مستخدمو الهواتف في البلدان المتقدمة الآن نحو ساعتين يوميا وهم منشغلون بشاشاتهم الصغيرة التي تلتهم جزءا كبيرا من أوقات الفراغ المتاحة لهم. لا يكفي فقط إلقاء اللوم على الشركات التكنولوجية العملاقة المسؤولة طبعا عن هذا الوضع ويجب محاسبتها، لكن توجيه الاهتمام يقع على عاتقنا نحن. فهناك الكثير مما يمكن القيام به. أول إجراء بسيط يمكن اتخاذه دون مجهود كبير هو إيقاف تشغيل الإشعارات. بالتأكد فإن الهاتف يتحوّل تلقائيا إلى وضع الصامت كل ليلة، بحيث يتم كتم صوت المكالمات والرسائل الواردة. المنصات الاجتماعية مثل فيسبوك وسناب شات ولينكد إن، تحول التبادل والخوف من تفويت الأشياء إلى أسلحة ويقول هارفورد، عادة ما يكون هاتفي صامتا بين العاشرة مساء والسابعة صباحا، وكتم الصوت لفترة أطول سيكون أفضل إذا أمكن، فيصبح الهاتف أقل تشتيتا دون الحاجة إلى بذل أي نوع من قوة الإرادة؛ ويجب شحن الهاتف في مكان بعيد عن مكان النوم، وهذا على الرغم من أن دائرة الإطفاء في لندن تقول لا ينبغي شحن الهاتف ليلا على الإطلاق. ويقدم تريستان هاريس، التقني السابق لدى غوغل ومؤسس حركة “إنفاق الوقت بحكمة”، اقتراحا باتخاذ المزيد من الخطوات مثل وضع العناصر الأساسية فقط مثل التقويم والكاميرا على الشاشة الرئيسية للهاتف وإخفاء الأيقونات الخاصة بالتطبيقات المزعجة كلها. فإذا أردت استخدام إنستغرام، يمكنك نقل تطبيق إنستغرام إلى الجزء المخصص للبحث في الهاتف. وهذا أمر فاعل لأنه بينما يكون البحث سريعا، فإنه يتطلب جهدا واضحا. ويتسرّب الاهتمام بمواقع التواصل الاجتماعي بشكل لا واع، فمثل شرع السياح في التقاط الصور. ومن ثم بدأ الانتباه في التسرب: أرادوا نشر تلك الصور عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وبالتالي انزلقوا دون تفكير نحو الدخول في عالم الألعاب والأخبار الواردة. وهذا يجعل نصيحة هاريس مفيدة. كما أن الوضع العاطفي يلعب دورا في جعل الهواتف تستحوذ على حياتنا. فخلال فترة العطلة، يكون من السهل تجاهل الهاتف، إلا أن هناك استثناءات لها دلالتها: فقد تصل مشكلة بسيطة عبر البريد الإلكتروني، تسبب القلق بعض الشيء، وأردت إرسال رد سريع، وأردت إعلام الأشخاص المعنيين، وأردت معرفة كيف كان ردهم، وفجأة تجد نفسك تتابع الهاتف كل بضع دقائق. ويمكن الاستفادة من الضغط الاجتماعي. فالمنصات الاجتماعية مثل فيسبوك وسناب شات ولينكد إن، تحول التبادل والخوف من تفويت الأشياء إلى أسلحة. المنصة الأكثر فظاعة هي “سناب ستريك” عبر تطبيق سناب شات، حيث تحتاج إلى مواصلة تبادل الرسائل كل 24 ساعة مع صديق ما من أجل الحفاظ على ديمومة الحوار. وبعض الأطفال سيفعلون أي شيء للحفاظ على ذلك، بما في ذلك إعطاء كلمات المرور الخاصة بهم للسماح للآخرين بإرسال الرسائل عندما لا يستطيعون ذلك. وهذا فقط لأن هواتفنا أصبحت أكثر دهاء في الطريقة التي تتلاعب بها في همومنا الاجتماعية. لكن ما يدفع إلى التفاؤل هو أن الضغط الاجتماعي يكون فاعلا في كلا الاتجاهين. فيمكن أن تؤكد لشريكك أو أصدقائك أو زملائك أنك لن تنظر إلى هاتفك خلال انخراطك في حوار، أو أثناء تناول الطعام، أو عندما تكون في اجتماع. اطلب منهم أن ينبهوك عندما لا تلتزم بموقفك، وأن يذكروك بأن تستمتع بالمنظر أمامك. ولا تقتصر مساوئ التعلق بالهواتف الذكية على المجال الشخصي، فهي تهدد الإنتاجية في العمل، حيث أشارت أريانا هافينغتون، المؤسس والرئيس التنفيذي لـ”ثرايف غلوبال” ومؤسسة مدوّنة “هافينغتون بوست” إلى أن الإدمان المتزايد على الأجهزة الإلكترونية والذكية يؤثر سلبا على قدرتنا للقيام بأي عمل مجدٍ أو حتى إنجاز المهام الموكولة إلينا نتيجة الإرهاق مما يدفع بالحكومات إلى استحداث الوزارات التي تُعنى بالسعادة. وأوضحت خلال القمة العالمية للحكومات الأخيرة في دبي، أن كل شخص بداخله مركز للحكمة والشعور بالسلام وحين يفقد الإنسان الاتصال بهذا المركز يفقد قدرته على التركيز والقيام بالأعمال المنتجة والسيطرة على المشاعر، ونصحت بأن يحرص كل إنسان على شحن هذا المركز بالطاقة الإيجابية باستمرار حتى يستطيع النظر إلى الحياة بتفاؤل. ولفتت هافينغتون إلى أننا وصلنا إلى مرحلة لا نستطيع التفكير بالعيش منفصلين عن أجهزتنا الذكية والشركات المتخصصة في الدعاية والإعلان تدرك هذا الأمر وتستغله لتحقيق العوائد. ونوهت إلى أن مستخدمي مواقع التواصل هم الشريحة الأكثر عرضة للكآبة لأنهم يقارنون حياتهم بحياة الآخرين ويتطلعون إلى حياة لا علاقة لها بواقعهم. وشددت على أهمية أن تستعيد المجتمعات علاقاتها والروابط التي تجمعها وإعطاء الأولوية للصحة النفسية، والتخلص من السموم الناجمة عن التعرض المستمر لمواقع التواصل الاجتماعي والأجهزة الذكية. وخلصت إلى أن الذكاء الاصطناعي لن يكون أكثر إبداعا أو عطفا أو حكمة من البشر، مختتمة كلمتها بدعوة النساء العاملات إلى التركيز على الإنسانية المعززة بدلا من التركيز على الواقع المعزز لكي يتمكنّ من الوصول إلى الحلول الناجعة لتحديات العمل.
مشاركة :