أكثر من مائة وخمسين سنة بعد رحيله لا يزال رائد الرومانسية أوجين دي لاكروا يستقطب الحشود ويحصد النجاحات. متحف اللوفر، الأكثر زيارة في العالم، أعلن مؤخراً أن المعرض الذي خصّصه للفنان الفرنسي قد حطم أرقاماً قياسية في عدد الزيارات (540 ألف زائر) بمعدل 5100 زائر يومي؛ وهو ما يجعل منه أكبر نجاحاته على الإطلاق؛ إذ لم يسبق لمعرض أن حقّق مثل هكذا إقبال من قبل. والمعرض أيضاً من أهم ما نظم في فرنسا منذ أكثر من خمسة وخمسين عاماً، فقد احتوى على 180 قطعة معظمها لوحات زيتية معروفة عالمياً كلوحته «الحرية تقود الشعوب» التي أصبحت رمزاً للثورات في فرنسا والعالم ولوحة «نساء جزائريات في مخدعهن» التي أثبت تأثيرها على الحركة الانطباعية. المعرض ضمّ أيضاً رسومات على الورق، مطبوعات حجرية والرسائل التي تبادلها الفنان الفرنسي مع أصدقائه حتى مدونته الشخصية. المعرض الناجح سيحل ضيفاً على متحف «المتروبوليتان موزيوم» بنيويورك ابتداء من شهر سبتمبر (أيلول) المقبل لمدة ثلاثة أشهر. فهل سيعرف الإقبال نفسه؟- أربعون سنة من الإبداعمشوار دي لا كروا الفني كان حافلاً بالأعمال الناجحة على مدى أربعين عاماً لم يكرسها الفنان الفرنسي لشيء آخر سوى الفن. وأكثر ما ميّزها الهجوم الذي لقيه من قبل النقاد والدوائر الثقافية الرسمية أمام تمّرده الدائم على التقاليد في تناول الموضوعات وكسره القوانين والأصول الفنية المفروضة على الفنانين آنذاك.الاتجاه نحو هذا الطراز الفكري بدا واضحاً منذ أعماله الأولى لوحة موت ساردانابولوس التي عرضها في صالون الرسامين عام 1827 وهوجمت بشدة ووصفت آنذاك «بمذبحة الرسم». كتب أحدهم آنذاك «لا أستطيع وصف رد فعلي أمام لوحة دي لاكروا. كان عليّ أن أعود بخطوات للخلف أمام زوبعة الألوان التي تعرضها هذه اللوحة، وهذه الأجزاء المختلفة التي تضفي إحساساً بالفوضى، لكني أعترف بأن شيئاً ما يجعلني مشدوداً لها...».كان لا يحب التقيّد بالشكليات والتفاصيل الدقيقة في أعماله، بل يوجّه اهتمامه للغة الألوان بدلاً عن لغة الظلال ويفضلها ترابية طاغية. عبقرية أعمال دي لاكروا تكمن في قوة الأحاسيس التي تسكن أعماله. كتب الشاعر بودلير مقارناً بين أسلوب الرومانسيين فيكتور هوغو في الكتابة ودي لاكروا في الرسم «دي لاكروا يتناول موضوعاته بذكاء حميمي، وبينما يكتفي هوغو بانتزاع القشرة يصل دي لاكروا إلى غاية الأحشاء...».وهذا الوصف ينطبق على كل أعمال دي لاكروا.الرسوم الجدارية التي أنجزها في كنيسة سان سوبليس انتقدت بشدة بسبب مشاهد «صراع الملائكة» التي اعتبرت غير لائقة بمكان مقدّس كالكنيسة، ولم يحظ آنذاك بمساندة أحد باستثناء صديقَي عمره بودلير وجورج ساند. وهي الرسوم نفسها التي تعتبر اليوم من ضمن الأهم والأجمل في العالم بعد رسوم مايكل أنجلو في كنيسة سيستين.الشخصية المتمردة للفنان الفرنسي كلفته رضا رؤسائه، وهو ما يكتبه في مذكراته حين يروي بأن سوستان دولاروش فوكو، مدير معهد الفنون الجميلة، دعاه لمكتبه يوماً ليطلب منه بعد سيل من المديح، تغيير أسلوبه الفني بما يتماشى مع ما تريده «الأوساط»؛ الشيء الذي أثار غضب دي لاكروا الذي أجابه بالرفض؛ مما تسبب في حظره عن كل المحافل، وحرمانه من العرض لأكثر من ست سنوات.ورغم أن دي لاكروا كان متأثراً في أسلوب رسمه بأعمال الفنانين روبنس، رافاييل، تيسيان ومايكل أنجلو، فإن الموضوعات التي تغذي خياله الفني كانت مستوحاة من عالم الأدب والشعر. وبدأ شغفه بالأدب مبكراً، حيث قرأ لهوميروس، فرجيل، وهوراس، وأعجب بالمعاصرين كفولتير وراسين، كما اتجه للكتابة في أولى سنوات شبابه، فكتب قصّتين قصيرتين ومسرحية قبل أن يكرّس حياته للرسم. وأول الأعمال التي قدمته للجمهور وأثارت اهتمام النقاد كانت لوحة «دانتي وفرجيل في الجحيم» عام 1821، وهي مستوحاة من الكوميديا الإلهية لدانتي في وقت لم يكن فيه هذا العمل الأدبي المّهم قد لقي بعد أي نوع من الإقبال أو الشهرة، كاشفاً عن رؤية فنية يقظة وذوق رفيع في مجال الأدب.دي لا كروا جسّد أيضاً أعمال اللورد بايرون في لوحته المثيرة للجدل «موت سوندابولوس»، وكان من عشّاق أدبه، لكن إعجابه الشديد بالروائي البريطاني ويليام شكسبير كان الأكثر تأثيراً على أعماله حتى لُقب في الأوساط الثقافية بأكثر «أبناء شكسبير شرعية»، قرأ أعماله مترجمة للفرنسية ثم انكب على تعلم الإنجليزية منذ 1820 مع صديقه المصوّر تشارلز سوليي لكي يقرأها بلغتها الأصلية. دي لاكروا الذي كان نادر الأسفار قطع الحدود لاكتشاف مسرح شكسبير في العاصمة البريطانية عام 1825، حيث مكث فيها ستة أشهر لمشاهدة جميع عروضه.بعدها بسنتين كان في الصفوف الأولى بمسرح أوديون بباريس لمشاهدة عرض الفرقة الإنجليزية «هاملت» بصحبة صديقيه فيكتور هوغو وألكسندر دوماس، مسجلاً في مذكراته كيف أن العرض كان «أقوى ما شاهد في حياته».رسم دي لا كروا ما بين 1835 و1859 أكثر من عشرين لوحة مستوحاة كلها من أعمال شكسبير أهمها «روميو وجولييت في مقبرة كابوليت»، «هوراشيو وهاملت في المقبرة» و«عتاب هاملت لأوفيليا».انبهاره بشخصية هاملت تحديداً ظهرت جلياً في المكانة التي خصّصها له، حيث أنجز ست عشرة مطبوعة حجرية وأربع لوحات تدور كلها حول شخصية الأمير الشكسبيري. تقول دومينيك دو فونت ريو، مديرة متحف «أوجين دي لاكروا»، قد يكون السؤال عن معنى الحياة «أكون أو لا أكون» قد وجد صدىً خاصاً لدى دي لا كروا الذي ظلّ كشخصية شكسبير في صراع مع نفسه وكان يرى نفسه قريباً من «روحه المعذبة».في أولى سنوات شبابه كان واثقاً من موهبته، وليس من الطريق التي يجب اتباعها. أحب الموسيقى والكتابة، لكنه اتجه للرسم، فشل في أولى خطوات حياته الفنية (مسابقة روما للرسامين)؛ مما جعله يدرك أن أول صراع يعيشه الإنسان هو صراعه مع نفسه. رسم دي لا كروا العشق الشكسبيري وعبّر عن إعجابه بقصص «عطيل وديدمونة»، «روميو وجولييت»، لكنه جسّدها بصورة سوداوية وقضى حياته أعزب لا يؤمن بالحب السعيد الدائم.- شخصيته وصداقاتهدي لاكروا كان رجل مجتمع يتردد بانتظام على سهرات ومجالس النخبة الثقافية، لا يفوته أي عرض مسرحي، أمسية شعرية أو ندوة أدبية، لكنه كان بشهادة أصدقائه ذا شخصية حساسة دائم القلق. كان كثير العمل، لا يعرف الراحة ومن الفنانين القلائل الذين ينجزون كل الأعمال بأنفسهم دون اللجوء لأيادي المساعدين كما كان يفعل الكثير آنذاك. سافر خارج فرنسا مرات قليلة لا تتعدى أصابع اليد، أهمها كان سفره للجزائر والمغرب الذي دام ستة أشهر، وكان له تأثير بالغ على أعماله الفنية.كان دي لا كروا حذراً في صداقاته، وكان يشكي، كما كتب في مدونته الشخصية، من «تكييف شخصيته مع كل واحد، أو بالأحرى ضرورة إظهار وجه مختلف في كل مرة؛ لأنه لا يجد شخص يفهمه لذاته». الشاعر والناقد شارل بودلير كان من المثقفين القلائل الذين فهموا تناقضات دي لاكروا وكسبوا صداقته. وقد رفض في البداية صداقته، بسبب فارق السن واختلاف الشخصيتين، لكن دفاع بودلير المستمر عن الرسام الرومانسي جعله يحظى باحترامه وصداقته في آخر الأمر. وكتب له رسالة شكر إثر الدراسة النقدية التي خصصها له عام 1859 قائلاً «كيف أشكرك على دليل الصداقة الذي تشرفني به اليوم؟... كلامك عني يملأني بالخجل والفرح في الوقت نفسه».على أن أقوى الصداقات التي عرفها في حياته كانت مع الكاتبة جورج ساند، التي بدأت عام 1838 حين طلب منه مدير مجلة «لي دو موند» رسمها لملحق خاص، وكان ذاك بعد انفصالها عن رفيقها الكاتب ألفريد دو موسيه. أواصر هذه الصداقة توطدت بعد العلاقة التي ربطت جورج ساند بالموسيقار فريدريك شوبان الذي كان دي لاكروا من أشد المعجبين به. صداقة الرسام الفرنسي بالكاتبة الفرنسية استمرت ثلاثين سنة تبادلا خلالها الزيارات والرسائل المفعمة بمشاعر الصداقة النبيلة. ورسم الفنان الفرنسي لوحات مشهورة في بيت صديقته كـ«تعليم العذراء»، ولوحة «جورج ساند وشوبان»، واستقبل ابنها موريس في ورشته لتعليم الرسم. أما هي، فقد خصّصت له باباً كاملاً في سيرتها الذاتية «قصة حياتي» (1855)، وكانت من الشخصيات التي دافعت عنه باستمرار، وظل يتراسلان لغاية أسابيع قبل وفاته بمرض السلّ، حيث كتب لها رسالة رقيقة ختمها بعبارة «وداعاً صديقتي الطيبة، أرجو أن تحتفظي لي بمكان في قلبك...».
مشاركة :