أثينا تحترق وأوروبا تتصبب عرقا والشرق الأوسط أكثر التهابا بينما تزداد جبال القطب الشمالي المتجمدة دفئا كل عام، وتفقد غابات كاليفورنيا المزيد من المساحات بفعل الحرائق الموسمية، فهل فات الأوان فعلا لإنقاذ كوكب الأرض من تأثيرات الاحتباس الحراري؟ ما هو واضح حتى الآن أن العالم قد انقلب رأسا على عقب. فقد استمرت درجات الحرارة القياسية هذا العام في حصد الأرواح من الشرق الأقصى إلى أوروبا وإلى كندا بينما أقبل الناس على الغطس في النوافير بساحات باريس وبرلين. كما دفع الحر القائظ أصحاب المتاجر في هلسنكي إلى فتح أبوابها ليلا أمام العامة للنوم حذو آلات التبريد، في بلد اعتاد سكانه الكفاح على مدار العام من أجل مقاومة البرد. لم يعد هناك شك بأن العالم أصبح على الحافة وأكثر يقينا اليوم بتأثيرات الاحتباس الحراري المدمرة بعد سنوات من النقاش العقيم بين العلماء ورجال السياسة، فمع تسجيل العدادات في 2018 أرقاما قياسية لارتفاع الحرارة منذ بدء التسجيل عام 1881، أصبح لزاما على العالم بأن يفكر في مصير الكوكب والأجيال القادمة. فمن جهة لا يخفي العلماء بأن الوجه الإيجابي لتلك التحولات المناخية الحادة قد مكن من التوجه إلى مصادر جديدة للطاقة كما فتح آفاقا مختلفة للسياحة العالمية من أجل استكشاف وجهات جديدة. وفي اعتقاد هذا الشق المتفائل فإن ذوبان المزيد من الكتل الجليدية سيتيح المزيد من الموارد المعدنية القريبة من الأراضي الصالحة للزراعة، ومصادر للطاقة كما سيمكن من فتح خطوط شحن بحرية جديدة. غير أن هذا الوجه المتفائل لا يعدو أن يكون سوى نقطة ضوء خافتة داخل نفق مظلم. فالأرقام الحديثة للمجامع العلمية تشير إلى أن الاحتباس الحراري كشف عن ارتفاع ملموس لمستوى المحيطات بما لا يقل عن 10 سنتيمترات طيلة نصف قرن ما يهدد فعليا بإغراق الجزر المنخفضة الارتفاع على المدى المتوسط. مثلا تتوقع وكالة الفضاء الأميركية (ناسا) ارتفاع المحيطات بأكثر من متر خلال قرنين، كما تفيد تقديرات المركز الوطني للبحوث العلمية في فرنسا باختفاء ما بين 10 آلاف و20 ألف جزيرة من على سطح الأرض في حال استمر ارتفاع منسوب المحيطات بذات النسق. وتبدو المفارقة من خلف تعنت الإدارة الأميركية للرئيس دونالد ترامب، الذي خير الانسحاب من اتفاقية باريس لحماية المناخ، من أن مدينتين أميركيتين على الأقل في دائرة الخطر بجانب عدد آخر من المدن العالمية التي شيدت تحت مستوى سطح البحر، مثل ميامي ونيويورك وأمستردام وطوكيو وسنغفورة. بل إن الباحث الأميركي ستيفن نيرم، المتخصص في علوم الفيزياء الفضائية، يذهب إلى اعتبار أن “الأوان قد فات بالفعل” لبعض المدن الأميركية في فلوريدا، بما في ذلك ميامي. كما حذر من أنه إذا لم يتم فعل أي شيء للحد من استهلاك الوقود الأحفوري، فإن نيويورك قد تصبح غير صالحة للسكن في عام 2085. ويبين تقرير الموقع العلمي المتخصص في رصد التغيرات المناخية (مستقبل الكوكب) أن تعاظم ظاهرتي التبخر وهطول الأمطار واضطراب التيارات الهوائية عالية الارتفاع، عمّق بشكل مباشر من تزايد الفيضانات والجفاف في آن واحد مثلما حدث في كاليفورنيا في العام 2016. ومثل هذه الاضطرابات المناخية المتطرفة ستسرع ليس فقط في الإضرار بالأنظمة الأيكولوجية والمناطق الزراعية الكبرى والمناطق الطبيعية، ولكن ستزيد أيضا من نسق التحولات التي تشهدها مناطق استيطان باقي الكائنات الحية ومن انتقال الأمراض، ما قد يؤدي الى اختفاء العديد من الكائنات، بواقع كائن حيواني من بين كل ستة كائنات مختلفة. وللدلالة على خطورة وجدية هذه التحولات المناخية رصد العلماء على سبيل المثال، ضررا غير مسبوق لحق قرابة 1500 كيلومتر من الحاجز المرجاني العظيم على الساحل الشمالي الشرقي لأستراليا، أحد كنوز التنوع البيولوجي المدرجة بقائمة التراث العالمي. وتبدو المعضلة مزدوجة أمام قادة العالم، فالمسؤولية التي تلقى على الموقعين على اتفاقية باريس لحماية المناخ لا تضع على عاتق الدول تجنب الأسوأ مناخيا وبيئيا فحسب، ولكنها ترتب عن ذلك التزامات دولية لما قد يلحق المجتمعات من فقر وهجرة ولجوء. يتوقع البنك العالمي ومنظمة الأمم المتحدة أن ينزلق أكثر من 100 مليون شخص إلى مستوى الفقر المدقع وحوالي 600 مليون شخص سيعانون سوء التغذية في أفق 2080 بسبب تضرر المحاصيل الزراعية والثروات السمكية والموارد المائية، بالإضافة إلى أضرار متوقعة قد تلحق الأراضي والبنية التحتية بفعل الفيضانات والكوارث الطبيعية. والخطر الأكبر أن التحولات المناخية تتربص بحياة الملايين في الشرق الأوسط وأفريقيا على وجه الخصوص، ذلك أن 66 بالمئة من الموارد المائية المتاحة في هذه المناطق هي مصادر مشتركة بين الدول. ويدفع هذا إلى الحديث بشكل أكثر وضوحا اليوم في هذه الدول عن مخاوف من اندلاع حروب مائية في المستقبل. بالنسبة لمنظمة الصحة العالمية فإن ارتفاع درجة حرارة الأرض من 2 إلى 3 درجات كفيل لوحده برفع عدد المصابين بالملاريا بنسبة 5 بالمئة. كما تعتقد المنظمة بأن ملياري نسمة سيكونون في مرمى حمى الضنك بحلول عام 2080، لكن العواقب الأكثر قربا يمكن أن تبرز بحسب المنظمة خلال الـ15 عاما المقبلة مع زيادة متوقعة بنسبة 10 بالمئة في أمراض الإسهال بسبب تلوث المياه. وفي الواقع فإن تأثيرات هذه التحولات على حركة سكان الأرض واللاجئين المناخيين والاستقرار الجيوسياسي في عدة مناطق في العالم، لم تتأخر في الاعلان عن نفسها. فقد تقدم سكان جزيرة بيكيني الواقعة بالمحيط الهادي بطلب اللجوء الجماعي إلى الولايات المتحدة تحسبا لتغيرات مناخية حادة. كما حذر علماء من أعاصير أكثر عنفا في منطقة الكاريبي لأنها تستمد طاقتها من الحرارة التي تفرزها المحيطات، وهي في صعود كما رصدت ذلك اللجنة الدولية للتغيرات المناخية. وعلى الرغم من أن الجدل لا يزال قائما بشأن العلاقة العضوية بين ظاهرة الاحتباس الحراري وتعاظم الأعاصير، إلا أن اللجنة خلصت إلى أن الأعاصير قد لا تكون نتاجا فوريا للاحتباس الحراري لكنه يجعلها أكثر حدة وتواترا. وهذا بحد ذاته شكل حتى الآن سببا مباشرا مع ظواهر الحر والجفاف، في نزوح أكثر من 83 مليون لاجئ مناخي بين عامي 2011 و2014 بحسب المركز الدولي لرصد النزوح الداخلي بينما تتوقع الأمم المتحدة أن يرتفع عددهم إلى 250 مليون شخص بحلول عام 2050. تعتقد الإدارة الأميركية بأن انسحابها من اتفاقية باريس والالتزامات الدولية للحد من انبعاثات الغازات الدفيئة، سيجنب قطاعات كثيرة من اقتصادها مثل الفحم والحديد والصلب، خسائر مالية ضخمة عدا خسارة الملايين من الوظائف وقرابة ثلاثة تريليونات من الناتج العام. لكن الاقتصادي البريطاني نيكولاس شتيرن، قدّر في تقريره الشهير الذي صدر العام 2007 كلفة ظاهرة الاحتباس الحراري وتغير المناخ، ما بين 1 إلى 10 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي عالميا، أي بواقع 5500 مليار يورو. ولا تبدو الولايات المتحدة في كل الأحوال بمنأى عن تلك الكلفة باعتبارها رائدة الاقتصاد العالمي حتى مع انسحابها من اتفاقية باريس.
مشاركة :