القاهرة – أمام انقسام الآراء الدينية في مصر حول التعاملات المجتمعية بين المسلمين والمسيحيين، اضطر فكري محمد، صاحب الخمسين عاما، لاستفتاء إمام أحد مساجد حي المطرية بالقاهرة، حول إمكانية منح جاره المسيحي جزءا من الأضحية مثلما يقدّم لأقرانه المسلمين، فكان الرد بأنّ “هذا حرام”، لكن وسطية رب الأسرة دفعته لتكرار السؤال على أحد المنتمين لدار الإفتاء، في محاولة لمباركة الخطوة، فكان الجواب “نعم هذا مُباح”. يبرر فكري الذي يعمل بمهنة التدريس، موقفه باستفتاء رجال الدين في كل تعاملاته اليومية وعلاقاته مع الناس، بأن “المؤسسات الدينية في مصر هي التي زرعت في عقول وأذهان الناس من الصغر، أن آراءهم الدينية السبيل الأمثل لنمط حياة بعيد عن الدخول في دوامة التحريم.. أبي كان يفعل ذلك، وأنا أكرر الأمر ذاته في كل نواحي حياتي، باستطلاع رأي المختصين في الدين قبل أيّ خطوة”. ويقول فكري لـ”العرب”، إن دخول رجال الدين في حياة الناس رسّخ لدى الأسر أن عدم مباركة الشيوخ لكل خطوة حرام، كما أن اقتحامهم كل شيء يخص تعاملات البشر، وإصدار فتاوى بشأنها، جعل البعض أسيرا لهم، لكن المشكلة في تباين آرائهم الدينية، فهناك أمور ينقسم حولها الأئمة ما يشكّل أزمة لضعاف النفوس ممن يتعاملون مع الرأي الديني في أمور حياتهم بمنطق التقديس. وتكمن إشكالية أكثر المصريين في التعامل مع الفتوى الدينية، أنها أصبحت جزءا من حياتهم، ولم يعد الأمر يتعلق بالزواج والطلاق والصلاة والصوم، أو ما يعرف بالأمور الثابتة شرعا، بل امتد ليصل إلى تعاملات البشر مع بعضهم. ويقول معارضون، إن هوس الناس بالرأي الديني، يعكس حجم تغلغل المؤسسات الدينية في المجتمع، ونجاحها في ترسيخ صورة ذهنية عند أكثر الفئات بأنّ تجاهل رأيها يعني “حرمانية” الفعل، كما أن تبرع بعض الجهات بإصدار فتاوى يعود أثرها لعصور سابقة، وأكثرها ليست ذات قيمة، محاولة لتعويض خسارتها في ملفات حيوية مثل تجديد الخطاب الديني، والإخفاق في مواجهة انتشار التشدد الفكري بالمجتمع. ويبرهن أصحاب هذا الرأي على ذلك، بالفتوى التي أصدرها الأزهر، الجمعة الماضية، وتتعلق بمدى إباحة مصافحة غير المسلم، وكأن هناك آراء مجتمعية ما زالت تحرّم مصافحة المسلمين للأقباط، في مؤشر يعكس خواء الفكر الديني وغياب أولويات التعامل مع القضايا المصيرية الأخرى، مثل إقصاء الدعاة والمفتين المتشددين الذين زرعوا في أذهان البعض، أن تعاملات المسلم مع المسيحي رهينة فتوى دينية تباركها وتبيحها. يوضح فكري “حينما ذهبت إلى كشك الفتوى الذي وضعه الأزهر بأحد محطات مترو الأنفاق للرد على تساؤلات الناس، وجدت العشرات من المواطنين يسألون عن ذات القضية.. هل أعطي المسيحي جزءا من الأضحية، وكان هناك من يستفسر عن استقباله في المنزل إذا جاء لتقديم التهنئة في عيد الأضحى، وهل أقدم له واجب الضيافة أم لا”. هستيريا الحصول على فتوى دينية ترتبط بإقحام المؤسسات في قضايا هامشية تخص فئات بعينها لمحاولة إثبات أنها موجودة ويرى متابعون، أن هستريا الحصول على فتوى دينية ترتبط بإقحام المؤسسات نفسها في قضايا هامشية تخص فئات بعينها لمحاولة إثبات أنها موجودة وذات أهمية مجتمعية، للإيحاء بأنها تحظى بثقة الناس، وهو ما يعطيها ظهيرا شعبيا ضد محاولات النيل منها أو الضغط عليها لتحسين مسارها، والتحرك لحسم قضايا أكثر أهمية تتعلق بالمجتمع كله، وليس فئة بعينها. ويضيف هؤلاء، أن غياب الوعي عند بعض الناس يصب في صالح الهيئات الدينية عموما، فهي تريد أن يستمر الهوس المجتمعي بالفتاوى، لأن ذلك يمثل أحد صمامات الأمان بالنسبة لها، لدحض الآراء التي تتحدث عن تراجع دورها، وبالتالي فهي تتعمد التعاطي مع التساؤلات التي تحمل قدرا من الرجعية للإيحاء بأنها ماضية في توعية الناس. ما يعزز تناغم الهوس بالفتوى مع مصالح المؤسسات الدينية، أنها تتجاوب مع تساؤلات تتعلق بالطب والسياسة والاقتصاد دون أن يكون أعضاؤها مؤهلين لتقديم فتاوى بهذه التخصصات، ما تسبب في عشوائية الفتوى بالتوازي مع زيادة أعداد الراغبين في معرفة رأي الدين. وتبرر نادية رزق، وهي مهندسة قاهرية، ذهابها كل يوم جمعة تقريبا إلى كشك الفتاوى، بأنها “شبت على ألا تتحرك خطوة في حياتها أو تتخذ قرارا قبل العودة إلى رأي رجال الدين”، لكن ما يلفت انتباهها أنها تحصل على إجابات دينية عن كل تساؤل، حتى وإن كان عبارة عن مباركة تلقي العلاج على يد طبيب وليس طبيبة. وتكمن أزمة بعض المؤسسات، أنها تتسلح بالقانون والدستور، باعتبار أن “مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع”، وهو ما وسّع من سلطاتها، حتى بدت عند أكثر الناس، أنها المصدر الرئيسي لحياة خالية من المحرمات، دون أن يُفرض عليها تحديد سقف لنوعية الفتاوى التي تصدرها، وطبيعة التخصص الذي تتحدث عنه، إذا كان بعيدا عن النواحي الدينية. ثمة إشكالية أخرى ترتبط بتمسك جهات الفتوى في مصر، بأنها “بريئة من الجهل بالنواحي الدينية، وتتهم الإعلام بأنه السبب في تطرق الناس لقضايا هامشية وليست ذات قيمة”. وقال عبدالمنعم فؤاد، أستاذ العقيدة والفلسفة بجامعة الأزهر، إن “غياب الوعي المجتمعي السبب الرئيسي في اللجوء إلى الدين في كل مناحي الحياة، فلا المدارس تقوم بدورها ولا الإعلام يمارس الدور المطلوب منه، ويسمح لغير المتخصصين دينيا في إصدار فتاوى تثير البلبلة عند الرأي العام”. وأضاف لـ“العرب”، أن الناس أصبحت في حيرة من أمرها، وتتخذ من الفتاوى الدينية تحصينا لقراراتها اليومية لأن المؤسسات المعنية بالتثقيف والوعي لا تقوم بواجبها، وهذا شبه متعمد، لافتا إلى أن الهوس المجتمعي بالرأي الديني مرض مزمن تسبب في خلق أزمة بين الأديان، ويمكن أن يصبح مقدمة لفتن كثيرة.
مشاركة :