مقاربة مفهوم القصة في شعر إيليا أبو ماضي

  • 8/22/2018
  • 00:00
  • 14
  • 0
  • 0
news-picture

احتفلت بلدة المحيدثة اللبنانية بابنها الشاعر إيليا أبو ماضي، وأقامت في بيت المستقبل - بكفيا ندوة حوله شارك فيها نقاد وأدباء. هنا كلمة الناقد لطيف زيتوني. في فاتحة كتابه «الجداول»، حدّد إيليا أبو ماضي وظيفة الشعر بأنها ليست تمريناً بلاغياً بل فعل اجتماعي يحتاج إلى متلقّ منفتح الذهن، لأن الفكر كالمطر ينزل على الأرض القاحلة وعلى الأرض الخصبة. فهنا ينمو، وهناك يموت. ليس أبو ماضي أول من كتب القصة الشعرية في أدبنا العربي، فنماذجها قائمة في شعر امرئ القيس، أقدم شعراء العرب المعروفين. وليس هو الوحيد الذي كتب القصة الشعرية في لبنان، أو في دنيا الاغتراب، فقد كتبها كثيرون، ومنهم خليل مطران، وشبلي الملاط، ورشيد أيوب، والياس فرحات، وفوزي المعلوف، ومنهم ابن بلدته ابراهيم المنذر صاحب القصة الشعرية الشهيرة «قلب الأم». لكن ميزة إيليا أبو ماضي أنه مال الى القصة الشعرية مدفوعاً بمفهومه لدور الكاتب – هذا الذي نطلق عليه اليوم تجاوزاً اسم المثقف. وهذا الدور الذي يقوم على التوعية - أي نشر المعرفة - وعلى النضال - أي الدفاع عن الحق - صبغ كتابات المهجريين عموماً، فأداه بعضهم بالنثر، وآخرون بالشعر، والقليل منهم بالقصة الشعرية. وكان أبو ماضي طليعة هذه الفئة الأخيرة، وأكثرَها إنتاجاً، إذ بلغت قصصُه الشعرية نحو الأربعين. القصة الشعرية سرد أحداث مترابطةٍ وفق المنطق السببي والزمني، ومحبوكةٍ بالشكل الذي يمنحها التأثير الذي يبتغيه الكاتب. فهي إذاً خاضعة لشروط القصة ومقتضياتها، وخاضعة في الوقت عينه – وهذا ما يميّزها - لشروط القصيدة ومقتضيات الشعر. هذه الازدواجية في التركيب وفي الهوية الأدبية هي مصدر التأزم القائم في داخلها، ومصدر صعوبة كتابتها، وموطن البراعة لدى المجلين فيها كإيليا أبو ماضي. والقصة تجري على أساليب مختلفة. انظروا الى قصص جبران كيف تهيمن الذات الكاتبة عليها، وانظروا إلى قصص نعيمة كيف يتوزع الضوء فيها وفق حاجة النص. قصص إيليا أبو ماضي الشعرية هي من هذا النوع الثاني، وهي تتراوح بين الرومنسية والواقعية، لكنها أقرب الى الواقعية من دون أن تفي بكل شروطها. فقد كان أبو ماضي خارج إطار المذاهب الأدبية الرسمية، كان كالنحلة التي تتنقل من زهرة الى زهرة، فيأتي عسلها بطعم الزهر كله. نوّع أبو ماضي موضوعات قصصه الشعرية، فكتب في الشأن الاجتماعي قصصاً كقصة «قتل نفسه» التي تحكي عن شاب بدّد ماله فتخلّى عنه أصحابُه، فانتحر. أو قصة «حكاية حال» التي تحكي عن رجل مسنّ تزوّج من فتاة أصغر منه بكثير فغدرت به. أو قصة «بائعة الورد» التي تحكي عن فتاة تركها حبيبها فقتلته وانتحرت، أو قصة «العاشق المخدوع» التي تحكي عن فتاة أحبت شابا ولكنها تزوجت بغيره، فلما مات الزوج عادت الى حبيبها، لكنها أنهكته بإسرافها ونزواتها، الخ.. ومثل هذه القصص الشعرية توعّي القارئ البسيط على مسائل اجتماعية قائمة، لكنها تدفع القارئ الفطن الى التفكير في المسائل الأبعد، أي في قيم الصدق والإخلاص والحب وغيرها. الى جانب القصص الشعرية الاجتماعية، قدّم إيليا أبو ماضي قصصا تأملية كقصة «الحجر الصغير» الذي نظر إلى حاله في جدار السدّ العظيم فوجد نفسه ضئيلاً حقير الشأن، فقرر أن يضع حداً لهذه الحياة الوضيعة التي يحياها، فرمى بنفسه من الجدار ما أحدث ثغرة فيه، فانهار، وغمرت المياه المدينة. لسنا هنا أمام مشكلة اجتماعية، كما في الحكايات السابقة، بل أمام مسألة تدعو الى التأمل في الأدوار المختلفة التي يؤدّيها البشر، وفي حقيقة المراتب وقيمتها. ومثل هذه التأملية قصة «التينة الحمقاء» التي قرّرت أن تمنع خيرها عن غيرها لفرط أنانيتها، فقررت أن لا تورق، ولا تُثمر، ولما رآها صاحبها على هذه الحال قطعها وجعلها حطباً للنار. ولا تخفى القرابة بين هذه القصة الشعرية والمثل الإنجيلي عن التينة التي لا تثمر. والواقع، أن القرابة بين الموضوعات التأملية المهجرية والنص الإنجيلي من الموضوعات التي أشار إليها الدارسون. وأود هنا أن أشير الى أمر مختلف، وهو أن الحكايات التي تستخدمها الكتب الدينية كوسيلة للعظة، ليست من طبيعة واحدة. فالقرآن، على سبيل المثال، يعتمد الحكاية التاريخية التي تروي وقائع حاصلة، ويختار منها ما يحمل عبرة ويوضح فكرة، أما الإنجيل فيعتمد المثل، أي ما يسمى في الفرنسية Parabole، وهو حكاية متخيلة ورمزية تؤدي المعنى وتوصل المغزى، لكن بأسلوب آخر. قصص أبو ماضي التأملية قريبة من الأمثال الإنجيلية، وهي مفصّلة على قدْر الفكرة، وتسير الأحداث فيها من غير تشويش نحو الغاية المرسومة. وفي المثل الإنجيلي، يوضح يسوع المغزى إن كانت ثمة حاجة الى ذلك، كذلك الحال في قصص أبو ماضي الشعرية. فالشاعر لم يوضّح العبرة من قصة «الحجر الصغير» لأنها لا تحتاج الى إيضاح، لكنه أوضحها في قصة «التينة الحمقاء»، فختمها بهذا البيت: من ليس يسخو بما تسخو الحياة به فإنه أحمق بالحرص ينتحر الى جانب الموضوعات الاجتماعية والتأملية، تناول أبو ماضي في قصصه الشعرية موضوعات سياسية. ويكفي أن نقرأ له قصيدة «الشاعر والأمة» أو قصيدة «الشاعر والملك الجائر»، لنكتشف كيف ينتصر فيها للضعيف والمظلوم في وجه الظالم والطامع. وفي قصصه الشعرية كلها تقريباً، يلجأ أبو ماضي الى الخاتمة المفاجئة، وأحياناً الصادمة، التي تفتح وعي القارئ على الواقع الحي، وعلى الحياة العامة والشخصية، فيقارن ويستنتج ويتعلم. نظر النقاد في القرن العشرين إلى القصة الشعرية على أنها وسيلة هروبٍ من العالم أو تعبيرٍ عن موقف فردي يائس من الاتجاه الذي يسلكه تطور المجتمع. والحقيقة، أن القصة الشعرية كانت دائماً تتطلع إلى أبعد من ذلك. فهي ليست خياراً فردياً تماماً، بل خيار مجموعات من المتنوّرين تواصَل حضورُها عبر التاريخ، فلم ينقطع على رغم تقلبات الزمن وتطوّر المفاهيم. هذه الجماعات المتنورة تحمل في نفسها روحاً إيجابية تتطلع الى حماية الحياة والإنسان من التشيؤ والموت الداخلي. ولقد عبر أبو ماضي عن هذه الروح الإيجابية في الكثير من قصائده، وجعلها ضميراً ينبّه القارئ إلى وجوب تجاوز الذات الفردية نحو الذات الإنسانية من خلال مشاركته في حماية مستقبل الإنسان على امتداد الأرض. وما تركيز أبو ماضي على القيم إلا تعبير عن التزامه كشاعر قاصّ بالروح البناءة المتفائلة كوسيلة لمواجهة تحديات الحاضر وصعوباته ومآسيه. أليس هو من كتب في قصيدة «ابتسم»: قال: الليالي جرّعتني علقما قلتُ: ابتسمْ ولئن جرعتَ العلقما فلعلّ غيرَك إن رآك مرنّما طرح الكآبة جانبا وترنما

مشاركة :