النفس والروح... بين تفكّر العقل والتساؤلات

  • 8/24/2018
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

نتساءل دائما عن كينونة النفس وكينونة الروح، موضوع يشغل حيزا كبيرا في ذاكرة الكثيرين منا، وبصفة خاصة الفرق بينهما، قضايا مهمة شابها بعض الجدل والخلاف والاختلاف في الرأي، وصراعات حوارية كثيرة في الندوات ووسائل التواصل الاجتماعي، دخل فيها علماء الدين، وعلماء النفس، والفلاسفة وغيرهم. وكما نرى فإن اختلاف الاسم يدل على اختلاف المسمى، فلدينا ثلاثة مسميات: روح، ونفس، وبدن، والبدن معروف ولاحاجة لإدخاله في النقاش. يقول الله عزّ وجل: «الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون». وقوله تعالى: «وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ماجرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لايفرطون». في تلك الآيات يخبرنا الله تبارك تعالى أنه يتوفى النفس الإنسانية في حالتين، وفاة عند النوم حيث يتوفى الله النفس عند نومها، ثم يرسلها عند استيقاظها لتعود إلى الجسد، وتبقى فيه إلى أجل مسـمّى، ووفاة عند الموت وانتهاء العمر: حيث يتوفى الله النفس، ويمسكها عنده، ولا يردّها إلى البدن. وهنا ندرك أن النفس تخرج من الجسد، وتنفصل عنه عند النوم، ثم تعود إليه عند اليقظة، وما يدل على مفارقة النفس للجسد وقت النوم أن الله سبحانه وتعالى جمع بين ذكر وفاة الموت ووفاة النوم في لفظ واحد، ولم يميز بينهما إلا بالإمساك في الأولى، والإرسال في الثانية، وأكثر مايدل على غياب النفس عن الجسد عند النوم هو غياب العقل وسكون الحركات الإرادية الاختيارية لجسد النائم، وهذا يثبت أن الجسد مادي ولايدرك شيئا ولايعي، ولكن هل النفس هي التي تحركه؟ لأن الرئة تعمل بوجود التنفس والقلب ينبض، وسائر العمليات البيولوجية للجسد بأمر من الله عزّ وجل.وهذا يعطينا تفكيرا بسيطا يؤكد لنا وجود شيء يدير هذه الأمور بأمر من الله عزّ وجل. هل هي الروح؟ أم أن النفس هي الروح؟ وكلاهما غادر الجسد. لنتأمل معا قول الله عزّ وجل، وقوله الحق: «اليوم تُجْزى كُلُّ نَفس بِما كَسَبَتْ لا ظُلمَ اليوم إنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الحِساب». ويمكن تقسيم النّفس إلى ثلاثة أقسام، وهي: النفس المطمئنّة، وهي أرفع الدرجات الّتي تصل إليها النّفس البشريّة، ويحتاج الانسان للوصول إليها كثيرا من العمل في مجال الطاعة والعبادة، وقد جاء ذكر النفس المطمئنة في القرآن الكريم، قال تعالى: «يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخُلي في عبادي وادخُلي جنتي».والقسم الثاني: النفس الأمارة بالسوء وهي النفس المستعدة للشر وفعل السوء، ومقترنة بالشيطان والهوى، وكثيرا ما تأمر صاحبها بارتكاب الذنوب والخطايا والآثام والرذائل، وتقود صاحبها في نهاية الأمر إلى نار الجحيم، يقول الله تبارك وتعالى: «وما أُبرِّئ نفسي إنَّ النفس لأَمارة بالسُّوء إلا ما رَحِمَ ربي إنَّ ربِّي غَفُورٌ رحيم». وأخيرا: النّفس اللوّامة وهي تتوسط بين النّفس المطمئنة والنفس الأمّارة بالسّوء أي أنها تفعل المعاصي والذنوب، ولكنّها تعترف، وجاء ذكرها في قول الله تبارك وتعالى: «لا أُقسم بيومِ القيامة ولا أُقسم بالنفس اللوامة». والآن لننتقل إلى الروح، ماحقيقة الروح؟ لننظر ماذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية يرحمه الله: «ومذهب الصحابة والتابعين لهم باحسان وسائر السلف وأئمة السنة أن الروح عين قائمة بنفسها تفارق البدن وتنعم وتعذب، ليست هي البدن ولاجزء من أجزائه».والروح هي جسم خفيف حيٌّ لذاته، علويٌّ متحرك يسري في الأعضاء، وينفذ فيها، ولم يتوصل الانسان لمعرفة ماهيّة هذه الرّوح أو حقيقتها ولم يستطع تحليلها، لأنها خلقت بأمر من الله عزّ وجل وهو العالم بها يقول الله تبارك وتعالى: «ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا». والروح إذا نزعت من جسد الإنسان توقف كل شيء وانتهى، قال الله تبارك وتعالى: «فإذا سوّيته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين». وتعود الأرواح إلى الأجساد بعد النّفخ في الصور فيقوم الناس أحياء يبصرون. قال الله تبارك وتعالى: «ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون».ورجّح بعض العلماء أن ذات النفس والروح واحدة ولكن الاختلاف يأتي في صفاتهما، فإذا اتصفت النفس بالمحبة والطاعة فهي روح، وإذا مالت إلى الهوى فهي نفس. وقد سُئل الشيخ محمد بن عثيمين عن المراد بالنفس والروح والفرق بينهما فأجاب بقوله: «الروح في الغالب تطلق على ما به الحياة سواء كان ذلك حساً أو معنى، فالقرآن يسمى روحاً» قال الله تعالى:«وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا»، لأن به حياة القلوب بالعلم والإيمان، والروح التي يحيا بها البدن تسمى روحاً كما قال الله تعالى:«ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي».أما النفس فتطلق على ما تطلق عليه الروح كثيراً كما في قوله تعالى:«الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى». وقد تطلق النفس على الإنسان نفسه، فيقال: جاء فلان نفسه، فتكون بمعنى الذات، فهما يفترقان أحياناً، ويتفقان أحياناً، بحسب السياق. وينبغي بهذه المناسبة أن يعلم أن الكلمات إنما يتحدد معناها بسياقها فقد تكون الكلمة الواحدة لها معنى في سياق، ومعنى آخر في سياق، فالقرية مثلاً تطلق أحياناً على نفس المساكن، وتطلق أحياناً على الساكن نفسه ففي قوله تعالى عن الملائكة الذين جاءوا إبراهيم:«قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية»، المراد بالقرية هنا المساكن، وفي قوله تعالى:«وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذاباً شديداً» المراد بها الساكن، وفي قوله تعالى:«أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها»المراد بها المساكن، وفي قوله: «واسأل القرية التي كنا فيها»المراد بها الساكن.فالمهم أن الكلمات إنما يتحدد معناها بسياقها وبحسب ما تضاف إليه، وبهذه القاعدة المفيدة المهمة يتبين لنا رجحان ما ذهب إليه كثير من أهل العلم من أن القرآن الكريم ليس فيه مجاز وأن جميع الكلمات التي في القرآن كلها حقيقة، لأن الحقيقة هي ما يدل عليه سياق الكلام بأي صيغة كان، فإذا كان الأمر كذلك تبين لنا بطلان قول من يقول: «إن في القرآن مجازاً، وقد كتب في هذا أهل العلم وبينوه، ومن أبين ما يجعل هذا القول صواباً أن من علامات المجاز صحة نفيه بمعنى أنه يصح أن تنفيه فإذا قال: فلان أسد، صح لك نفيه، وهذا لا يمكن أن يكون في القرآن، فلا يمكن لأحد أن ينفي شيئاً مما ذكره الله تعالى في القرآن الكريم».

مشاركة :