من أبرز الشبهات التي لا يمل خصوم الإسلام ترديدها، الادعاء بأن المسلمين كانوا في فترات عديدة من تاريخهم يستخدمون ضمن منهجهم الدعوة إلى دينهم، باستخدام وسائل الإكراه مادياً ومعنوياً لإجبار غيرهم على قبول أفكارهم وما يدعون إليه.والحقيقة أن الإسلام أرسى دعائم «حرية العقيدة» وكفل الحماية لممارسة شعائرها، وأقام العلاقات بين المسلمين وغير المسلمين على التسامح واحترام آدمية الإنسان وكرامته، وعدم الإكراه على دين أو عقيدة أو فكرة. في دراسة مهمة بعنوان «حرية العقيدة بين الشريعة الإسلامية والوثيقة الدولية لحقوق الإنسان» يقول الدكتور إبراهيم العناني العميد الأسبق لكلية الحقوق بجامعة عين شمس المصرية: «منذ بزوغ فجر الإسلام ومحاولات النيل منه، من قبل أعدائه، لا تنقطع، وتزايدت موجات الهجوم عليه في السنوات الأخيرة من خلال محاولات فاشلة ومردودة لتشويه صورة نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم؛ بدعوى حرية التعبير التي يتم استخدامها بسوء نية بالمخالفة لمفهومها السليم وخروجاً على حدودها كحق من حقوق الإنسان».ويضيف: «في مقدمة حقوق الإنسان التي يزعم المغرضون انتهاك الإسلام لها «الحق في حرية العقيدة» وهو الحق الذي تؤكده جميع الوثائق الوضعية العالمية والإقليمية والمحلية لحقوق الإنسان أو ذات الصلة بها». رد قاطع والرد الناجع والقاطع على ذلك الزعم ينبع من المصادر الإسلامية الشرعية، خاصة القرآن الكريم والسنة النبوية.ويلفت الدكتور العناني إلى أن الدين لابد منه للإنسان، فبه تسمو معانيه الإنسانية عن التشبه بالمخلوقات الأخرى؛ لأن التدين خاصة من خواصه، ولا بد أن يحفظ له دينه من أي اعتداء؛ ولذا اهتمت الشريعة الإسلامية بحرية الدين أو العقيدة.ويوضح أن المقصود من حرية العقيدة أن يكون لكل إنسان حق اختيار ما يتوصل إليه من خلال اجتهاده في الدين، فلا يكون لغيره أن يكرهه على دين أو اعتقاد معين، أو على تغيير أو تبديل ما يعتقد أو يدين به بأية وسيلة من وسائل الإكراه، مؤكداً أن حرية العقيدة تعني «حرية الإنسان في اختيار العقيدة التي يؤمن بها من غير ضاغط خارجي».وينقل الدكتور العناني في دراسته القيمة رأي العالم الكبير الشيخ محمد أبو زهرة في حرية الاعتقاد؛ حيث يراها تقوم على ثلاثة عناصر، هي: * تفكير حر غير مأسور بتعصب لجنسية أو تقليد، أو شهوة أو هوى، فكثيراً ما تتحكم الأهواء والجنسية باسم التدين. * منع الإغراء أو الإكراه للحمل على عقيدة، فليس بمتدين حر من يعتقد اعتقاداً تحت تأثير إغراء بالمال أو المنصب أو الجاه. * العمل على مقتضى العقيدة، وتسهيل ذلك لكل معتنق لدين من غير إرهاق. لا إكراه في الدين ويقول الدكتور العناني: لقد احترم الإسلام حرية التدين والاعتقاد احتراماً كاملاً؛ حيث منع الإكراه في الدين، وكفل الأمن والطمأنينة لأصحاب أو أتباع الديانات الأخرى. ويؤكد هذا الاحترام قوله تعالى: «لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ».. (سورة البقرة: 256).فالاعتقاد لا يأتي بطريق الضغط أو الجبر، وإنما بطريق إعمال العقل الحر المختار، ثم يبين -سبحانه وتعالى- أنه لم يشأ قهر الناس على الإيمان به، واستنكر الإكراه أو القهر بقوله سبحانه وتعالى: «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا,أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ».. (سورة يونس:99)، وقوله عز وجل: «وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ» (سورة الكهف: 29)، وقوله سبحانه وتعالى: «فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ» (سورة الغاشية: 21- 22) وقوله تعالى: «وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِين» (سورة النور: 54).وتوضح الآيات السابقة حرص الشارع الحكيم على حرية العقيدة وإيصاءه رسوله الأمين بألا يتجاوز في الحق دائرة البيان والتبليغ والتذكير ولا يتعداها إلى القهر والسيطرة. وثيقة المدينة ويمضي الدكتور العناني قائلاً: إنه تحقيقاً لحرص الإسلام على كفالة الأمن والسلام لأصحاب المعتقدات الأخرى، عاش غير المسلمين قروناً طويلة مع المسلمين من دون أن يتعرض أحد لمعتقداتهم، أو يكرهوا على ترك دينهم، وأكدت ذلك «صحيفة المدينة المنورة» التي تمثل أول توجيه يصدره رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة لأهل المدينة؛ حيث جاء فيها «هذا كتاب من محمد النبي «رسول الله» بين المؤمنين والمسلمين من قريش و«أهل يثرب» ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، أنهم أمة واحدة من دون الناس. وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم».وبذلك أكدت الوثيقة أن لغير المسلمين حرية الاعتقاد، وحق ممارسة شعائر دينهم وطقوسه، ولا يوجد أي إجبار عليهم لترك دينهم أو معتقدهم.واتضح ذلك أيضاً من كتاب المصالحة الذي وجهه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى أهل نجران، وجاء فيه«... ولنجران وحاشيتها ذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم على دمائهم وأموالهم وملتهم، وبيعهم، ورهبانيتهم وأساقفتهم وشاهدهم وغائبهم وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير...». ويختم الدكتور العناني كلامه قائلاً: «إن من يعش في ظل الإسلام تتوافر له «حرية العقيدة» فالإسلام بعد أن رفض التمييز بين الناس باعتبار أجناسهم وألوانهم وعنصرهم لا يقر بوجه عام أي تمييز بينهم بسبب العقيدة أو الدين، فلا يضار غير المسلم فيما يعتقد، ويكفل له الإسلام الحق في إقامة الشعائر الدينية كما يحب وكما يريد، بل إن من بين الأسباب التي شرع الله الجهاد لأجلها حماية دور العبادة وأداء الشعائر الدينية».
مشاركة :