يخبرنا المسؤولون عن الحج هذا العام بأن «نحو 80 في المئة» من المقبلين إلى مكة ليسوا من العرب. ويضيفون أن «اللغة الأوردية هي أكثر اللغات انتشاراً بين الحجاج تليها الإنكليزية»، وأنه في شوارع المدينة، يمشي حجاج عرب وآسيويون وأوروبيون وأفارقة وغيرهم بالقرب من بعضهم بعضاً، ولا يوجد بينهم أي أمر مشترك سوى الدين، ولا يتحدث كثيرون منهم أي لغة سوى لغاتهم الأصلية، وهم في معظمهم لا يفهمون العربية». مثل هذا المعطى، وغيره كثير، يسمح بقراءة الحج من زاوية السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا وعلاقتهما بتحليل الشعائر والطقوس والرموز الدينية بالاستناد إلى التأويل الثقافي. ولربما يتيح تأمل المرء في فريضة الحج إعادة الاعتبار إلى البعد الإنساني للدين، وهو بُعدٌ تمكّنتْ القراءات المتشددة للنصوص الدينية وأنماط التدين الخشنة والمنغلقة من التشويش عليه، وجعل مساحاته تنكمش. فمنذ هجرة إسماعيل - عليه السلام - إلى مكة واستيطانه واديها وعمرانه له وزواجه من قبيلة جرهم، حدثَ تزاوجٌ ثقافي ضخم، كان علامة تاريخية فارقة، كسرتْ انغلاق العِرق العربيّ على نفسه، وشكّل مجيء الإسلام في ما بعد مزيداً من انكسار ذلك الانغلاق. ولقد كان ابن خلدون متيقظاً ونابهاً حين أدرك «أنّ الصفاء التام لا يكون إلا بالتوحش التام»، كما يقول في مقدمته، وهو معنى تستعاد أهميته ونحن نشهد أن صراعات الهُوية حاضرة بقوة في منطقتنا منذ عقود. ويعلّق الباحث السعودي عبدالله الغذامي، في كتابه «القبيلة والقبائلية» (المركز الثقافي العربي/ 2009) على ذلك بقوله: «كلما توحشتْ وتصحرتْ مجموعة ما صارتْ لها الفرصة في الالتفاف الذاتيّ، والانغلاق على نفسها، وكلما خطتْ باتجاه التحضّر وانتقلتْ من سكنى القفار إلى سكنى المدن بدأتْ بالاختلاط». وفي ذلك استجابة لقانون التعارف وضرورات التعايش «وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا». لقد كان النبي إسماعيل ابن جارية وجاء إلى جرهم ليصاهرها، وفي العرف الثقافي التقليدي الذي كان ولا يزال، كما ينبّه الغذامي، فإن جرهم العربية سترفض تزويج غير عربي وابن جارية، لكنها تجاوزت ذلك التقليد وزوجته، ونتج من هذا الزواج تحوّل هو من أشد التحولات في تاريخ الثقافة العربية، وجاءت تسمية «العرب المستعربة»، أيْ العرب المخلوطة والممزوجة بين أكثر من عنصر، وكان تفجّر ماء زمزم، يتابع الغذامي، «يرمز إلى تفجّر ثقافي هائل، جرى بعده كتابة تاريخ جديد للغة والبشر» في تلك البقعة، وصار الوادي القاحل غير ذي الزرع مثمراً بالاختلاط والتهجين وتنوّع البشر وتعارفهم والتقاء مصالحهم واشتراكهم في الأصل الإنساني ووحدة الخلق «كلكم لآدم وآدم من تراب». أيْ أنّ القراءة الإنسانية التي تلتفت إلى أنّ تفجّر ماء زمزم ومصاهرة إسماعيل جرهم ومن بعد ذلك بعثة النبي محمد عليه الصلاة السلام... هذه القراءة فيها توسيعٌ، في رأي الغذامي، «لدائرة العِرقية وكسر للصفاء الافتراضي والبوتقة المغلقة» للجنس العربيّ، وهي قراءة إنسانية لا يتمّ التركيز عليها عند تناول أركان الحج وحادثة ماء زمزم. وأغلب التناول لهذه الحادثة يتم بصورة تكرارية، تخلو، في العادة، من تلمّس الجوانب الإنسانية والتحولات التاريخية الواسعة التي تخلّقتْ إثر تلك الأحداث. وهذه مناسبة لإعادة الاعتبار إلى تلك الأبعاد، وتوسيع دائرة النقاش حول الغنى الإنساني الذي تنطوي عليه، لا سيما في ظل عودة العصبيات و «الهويات القاتلة» إلى حاضرنا واجتماعنا في العالم العربي، حيث صارتْ لعبة كرة قدم قادرة على إحالتنا كائنات غرائزية لا تتورع عن إحياء واستدعاء نوازع ومكنونات العنف والبدائية والعصبية لديها، وفي أسوأ أشكالها بُعداً من حقيقة الدين أو معاني التمدن والإنسانية. والذين يقرأون الدين كأنه نزل هكذا دفعة واحدة من دون مراعاة للسوسيولوجيا، إنما يُخرِجون الدين من التاريخ، ويصطدمون في مأزق الاختيار بين الواقع أو الدين؛ حين يغفلون عن أنّ أهم أسباب حيوية الإسلام إنما كمُنتْ تاريخياً في تنوع التأويل وثرائه بما سمح بإنتاج تحضّرٍ عكس مقاربةً دينية تتيح راحة العيش بلا عناءٍ أو وخزِ ضمير، كما عكست اختلاط الفاعلين في دوائر الدين المختلفة نشأة ونمواً، ووصل الأمر إلى ألمع لحظاته في الأندلس، مثلاً، ما يؤشر إلى تلك القيمة الإنسانية التي تؤكد قيم التعارف والتواصل والتهجين الثقافي كمنابع لإبداع البشر والمجتمعات وقيام الدول والحضارات. وفريضة الحج، كمؤتمر تتساوى فيه الأعراق والأجناس والألوان والنساء والرجال، مناسبة سنوية مهمة للتذكير بهذه المعاني وتأصيلها وتوسيع الحوار حولها وربطها بالواقع. * كاتب أردني
مشاركة :