ها قد أشرفت الدولة الأموية في الأندلس على النهاية الحتمية في سنة 422هـ، وبعد أن مات المستكفي بالله آخر الملوك الأمويين افترق الناس بين من يقول أنه مات مسموما من قبل أحد حراسه، ومن يقول مات في ظروف غامضة، وفي إحدى الأمسيات الجميلة المليئة بالرجال والنساء والفقهاء واللهو والشعر والأدب والمسامرات والراح والظرف والمفاكهة في قصر ولاّدة بنت محمد بن عبدالرحمن المستكفي بالله الأموي، في الزهراء إحدى ضواحي قرطبة، وبعد تجاذب مختلف أنواع الحديث بين الحاضرين والحاضرات، ومرور الوقت على اللقاءات العابرة، وبعد أن التقت العيون بالعيون وخرج ما في القلب إلى القلب مباشرة ومن دون وساطة، واختارت الروح ما يشاكلها من الأرواح، وتأكدت ولاّدة بنت المستكفي أن سهمها إلى من وجهته إليه من بين الحضور لن يخيب، وبعد اختبار دقيق، وقد راقها منظره وهيئته وجماله وشِعْرُه وتوافقُ روحه مع روحها، في لحظة خاطفة رمقت ولاّدةُ ابنَ زيدون وقد شغفها حبا بنظرة خاطفة لم يشعر بها الحضور وما أكثرهم، ودست له ورقة صغيرة من دون أن يعلم فحواها، لكنه فهم إشارتها، فلغة الحب لا تحتاج إلى نحو وصرف، بل إلى تورية واستعارة وإشارة. فما كان من ابن زيدون، وقد أشرفت السهرة العامة على نهايتها، إلا أن خرج إلى فناء القصر مستأذنًا من الحضور، ومتذرعا بقضاء بعض الحاجات، وشم النسيم العابق برائحة الياسمين، وزهر الرمان، ونوار الليمون، ورائحة شجر الحناء، والورد الجوري العابقة في المكان وسماع أصوات المياه المنسابة من السواقي التي تدغدغ أذنيه، وهو في حقيقة أمره يريد فك طلسم ولاّدة في هذه القصاصة من الورق التي دستها في جيبه فوجد البيتين التاليين: ترقب إذا جنّ الظلام زيارتي فإني رأيت الليل أكتم للسرّ وبي منك ما لو كان بالشمسِ لم تلحْ وبالبدرِ لم يطلعْ وبالنجم لم يسر فهم الشاعر ما طلبته منه ولاّدة، وتذكر البيتين الشعريين اللذين خطتهما على عاتقي ثوبها أنا والله أصلحُ للمعالي وأمشي مِشيتي وأتيهُ تيها وأمكنُ عاشقي من صحن خدي وأعطي قبلتي من يشتهيها وما هي إلا لحظات حتى غادر ابن زيدون المكان وفي قلبه رغبة جارفة للقيا ولاّدة في اليوم التالي، ولكن ليس في بهو القصر وصالاته، وإنما في حدائق القصر وفي عتمة الليل، بعد أن ينفض الحضور بمختلف أشكالهم. لم ينم ابن زيدون في تلك الليلة فظل يتقلب حتى أدركه الصباح ليشغل نفسه بأمور الدولة والمجتمع وهو الوزير والشاعر المقرب من الأمير أبو الحزم بن جهور لينقضي النهار ويأتي الليل الموعود مع ولاّدة، وبعيدا عن عيون الحضور، لا بل بعد أن تنتهي سهرتهم لتبدأ سهرة ابن زيدون مع ولاّدة. فانقضى النهار، وابتدأت السهرة المعتادة في قاعات القصر، ولم تتخلف، كعادتها، ولاّدة عن الحضور لكيلا تثير الشك، وما هي إلا دقائق، وإذ في أثرها ابن زيدون وقد بدأ الجو في النقاش المعتاد وتبادل الأشعار والأفكار والمشاعر، وكان ابن حزم الأندلسي فيه متألقا على كل الحضور في تلك الليلة، حيث كان النقاش والجدل يدوران حول بعض أفكار كتابه طوق الحمامة حيث كان الكلام في مشكلة الحب هو الموضوع الأثير لدى الحضور. وبينما الأمر كذلك كان ابن زيدون يسترق النظر إلى ولاّدة فلاحظ على محياها علامات الارتياح والبهجة لأنه حضر هذه الليلة، ولم يتغيب لكي يظل موضوع لقائهما فيما تبقى من الليل وبعد انصراف الجميع أمرا مؤكدا ومكتوما، ومن دون إثارة أي نوع من الشكوك أو الملاحظة، أو الفضول من المتربصين وما أكثرهم، أو أي أسئلة مريبة عن عدم حضوره. وفيما يتعلق برأي ابن حزم في ولاّدة فقد كان يقدرها ويجلها وقد وصفها بالشاعرة والأديبة والمتبحرة والشخصية المنفتحة، ومع أنه كان يؤيد الأمويين، فإنه كان يكره في المقابل المستكفي بالله والد ولاّدة ويصفه بأنه سكّير ضيع حكما وراء شهواته ونزواته وتصرفاته غير المسؤولة. ومع جو المطارحات الشعرية، وجدالات ابن حزم حول الحب بدا الوقت بطيئا في إيقاعه لولاّدة وابن زيدون ولم يلتقيا هذه المرة كالعادة وقد تشاغلا عن بعضهما ، فكل شيء مؤجل لما بعد الجلسة العامة، والعاشقان على أحر من الجمر بانتظار ما هو أجمل من المتع والملذات المشبوبة، ولقاء الروح بالروح بعد أن ينفض السامر. بعد ساعة أخذ الحضور ينسحبون شيئا فشيئا بمن فيهم ابن زيدون. وكان آخر الخارجين من قاعة الضيوف في القصر ولاّدة حيث أخذت في المشي الهادئ في ممرات القصر الخارجية المحفوفة بالأشجار، والورود والزهور الفواحة بدلا من الخلود إلى الراحة ثم النوم. في هذه الأثناء، وقد اقترب الليل من منتصفه مع قمر في اليوم العاشر من الشهر انتحت ولادة جانبا في أحد الممرات الملتوية بحيث تكون فيه الأشجار أكثر كثافة وظلمة وقربا من أحد أبواب القصر الجانبية المخصصة للخدم، وهو الباب الذي سيدخل منه مرة أخرى ابن زيدون بعد أن رتبت ولاّدة أمر دخوله إلى القصر مع بعض حراسها الموثوقين ووصيفاتها المقربات مع التأكيد على عدم وجود فرصة للصدفة أو الخطأ أو اكتشاف اللعبة بين الحبيبين. اقتربت ولاّدة من الباب الجانبي للقصر، وعلى بعد خطوات قليلة وجدت ابن زيدون قادما في قبالتها يمشي الهوينا مع شيء من التردد، وبمجرد التأكد من أن القادم هي ولاّدة حين شم عطرها المميز من بعد أسرع الخطو نحوها ويكاد قلبه يخرج من صدره فالتقيا وجها لوجه وأمسك بيدها وقبلها على ناصيتها وقبلته في راحة يده ومشيا معا كتفا إلى كتف حيث اصطحبته إلى أجمة من الأشجار تستر أكثر مما تكشف، لا يخترقها حتى ضوء القمر، حيث تم ترتيب كل شيء بالدقة المطلوبة للقاء عاشقين متيمين ببعضهما حد الثمالة. جلس الحبيبان العاشقان على كرسي منحوت من الحجر البركاني مظلل بالأشجار قبالة بحيرة صغيرة يترقرق ماؤها بهدوء، تقابلا، ثم سألته ولاّدة هل خفت من المجيء في هذا الوقت إلى القصر؟. ابن زيدون: لا أبدا لم أشعر بالخوف، لكنني كنت قلقا من اكتشاف أمرنا. أما الآن وقد تكللت الأمور بالنجاح على ما يبدو فقد زال كل ما ينغص لقاءنا ويعكر هوانا المؤجل. ولاّدة: ربما تأخر لقاؤنا بعض الشيء لكن الحذر واجب والغرماء كثر والحسّاد أكثر. المهم أن هذه الليلة هي ليلتنا، أقصد ليلتك. ابن زيدون: وهو كذلك، نعم إنها ليلتنا ياسيدتي. تبسمت ولاّدة قليلا وهي تقول لابن زيدون: عرفتك شاعرا مجيدا، لكنك لم تخبرني من تكون، وهل أنت من العرب أم البربر؟. ابن زيدون: وهل للحب وما نحن فيه علاقة بأصل وجنس العرب أو البربر. ولاّدة: لا، أبدا، لم أقصد ذلك، فقط أردت أن تعرّفني بنفسك، وأعرّفك بنفسي. ولا يجوز أن نكون حبيبين وعاشقين من دون أن نعرف أصول بعضنا بعضا. لكنها في الحقيقة كانت تريد اختبار ردة فعله لا معرفة أصله على الحقيقة، وهي تعرف من هو بالضبط ومن يكون وهي العالمة الشاعرة المثقفة. هنا أخذ ابن زيدون يعرّف بنفسه لولاّدة قائلا: نعم سيدتي أنا الآن خليط من العرب والبربر، صحيح أن أصولي البعيدة مشرقية عربية ومن بني مخزوم كما حدثني والدي وجدي لأمي رحمهما الله، إلا أن التزاوج بين أجدادي والبربر قد تم من عدة أجيال وأنا نتاج هذا التزاوج العربي البربري باختصار شديد. أما عن شخصي وعائلتي فأبي هو عبدالله ابن زيدون وسماني أحمد وكنّاني بأبي الوليد، وأنا وحيده وقد مات وأنا في الحادية عشرة، وتكفلتني أمي وجدي لأمي أبو بكر بن محمد بن إبراهيم وهو أحد أعلام قرطبة المعدودين وربياني أحسن ما تكون التربية، لكن جدي قتل غيلة من قبل ابن سعيد وزير المعتمد الأموي. وبموت جدي أكون قد تيتمت مرتين، الأولى بموت أبي في الطفولة، والثانية في ريعان الشباب بموت جدي. هذا بالمختصر المفيد، لكن من تكونين أنتِ يا ولاّدة؟ أجابت ولاّدة إجابة مقتضبة: وهل يخفى القمر يا ابن زيدون؟ ابن زيدون: عفوا سيدتي، كما اتفقنا أن يعرّف كل منا بنفسه للآخر لا أكثر ولا أقل. أجل. قالت ولاّدة، وأردفت: أنا كما أنت من أصول عربية فآبائي وأجدادي من الأمويين عموما، ومن البيت المرواني خصوصا، وأبي هو محمد بن عبدالرحمن الملقب بالمستكفي بالله. أما أمي فهي من أصول فارسية واسمها مروزية وهي التي اختارت اسمي وليس والدي وأسمتني ولاّدة، وكما أنت وحيد والديك أنا وحيدة أمي وأبي، وعلى الرغم مما يقال عن أبي أنه أضاع الملك بسبب انغماسه في الشهوات والملذات، فإنه لم يدخر جهدا في تربيتي وتأهيلي وتعليمي وتبوئي ما أنا فيه من مجد ومكانة حتى بعد رحيله. بالنتيجة كلانا تيتم وهو في ريعان الشباب. رحم الله والدي ووالدك. بمجرد انتهاء ولاّدة من هذه الديباجة التعريفية اقترب ابن زيدون منها قليلا حتى كادت المسافة بينهما تضيق. فأخذ يدها اليمنى، وقبلها ثم اليسرى ليقترب منها حيث لا توجد مسافة بينهما وقد بدأ يمسح بلطف ورقة على شعرها الطويل الكستنائي مبتدئا من قمة رأسها وحتى رقبتها. وما هي إلا لحظات حتى استدارت ولاّدة إلى ابن زيدون وأدنت جسدها المطواع من جسده ووجهها في قبالة وجهه، وكأنها تقول له الثم هذا الثغر، فما كان من ابن زيدون إلا أن فهم هذه الحركة وقام باحتضان ولاّدة وضمها إلى صدره بحنان وشاعرية موزعا قبلاته على كل أنحاء جسدها، وهي تبادله نفس القبلات المشبوبة والمؤجلة وإشباع الرغبات التي حان أوان إروائها. في لحظة فارقة قام ابن زيدون بما يجب أن يقوم به حيث وقف على طول قامته مع مساعدة ولاّدة الذائبة عشقا ورغبة في الوصال في الوقوف قبالته ثم احتضانها ولزم صدرها بصدره، وقد تورد خداها وكبر نهداها، فقام ابن زيدون بفك قميصها حتى بان صدرها البض نزولا إلى إزارها الذي سرعان ما فك نفسه بنفسه ليقضيا وطرا جميلا، وتتعطل لغة الكلام إلا من همهمات وزفير يخرج من الروح إلى الروح وقد امتلأ الحبيبان فرحا وحبورا من جراء اللذة المتبادلة والرشف المتبادل وعنفوان الشباب المتجدد بين شابين في مقتبل العمر ومتقاربين في العمر واللذة. فابن زيدون يكبر ولاّدة بست سنوات، ففي هذه الليلة الحالمة كان عمره ست وعشرين سنة، وعمرها عشرون عاما بالتمام والكمال، وسيظل هذا اللقاء الأول محفورا في ذاكرة ابن زيدون ربما أكثر من ولاّدة وبعد أن قضيا وطرهما بديا وكأن لسان حالهما يقول: وطر ما فيه من عيب سوى أنه مر كلمح البصر بعد الحب الأول استراح الحبيبان عدة دقائق بعدها طلبت ولاّدة من ابن زيدون مغادرة القصر من نفس الطريق والباب الذي دخل منه، بادرها ابن زيدون قائلا: نعم سيدتي وهل بعد الذي جرى بيننا من علاقة بالعرب والبربر؟ تبسمت ولاّدة كناية عن موافقتها رأي ابن زيدون بأن الحب ليس له علاقة بالعرق واللون والمذهب. ولجمال وروعة اللقاء الأول هذه الليلة التي تعانقا فيها حتى خيوط الفجر الأولى ارتجل ابن زيدون بعض الأبيات أنشدها ولاّدة قبل أن يغادر المكان: ودع الصبرَ محبُّ ودعك ذائع من سره ما استودعك يقرع السن على أن لم يكن زاد في تلك الخطى إذ شيعك يا أخا البدر سناءً وسنى حفظ الله زمانا أطلعك إن يطُلْ بعدك ليلي فلكم بتُّ أشكو قصر الليل معك ثم فعل ابن زيدون ما أمرته به وهي تراقبه حتى خرج من القصر نهائيا، وعادت هي إلى القصر وقد بدت عليها أمارات النشاط والحيوية وارتياح الجسد الجميل وخفة الروح، دخلت إلى مقصورتها في القصر استلقت على الأريكة، مجرد لحظات، ذابت في نوم عميق وهانئ وأحلام ليلة صيفية من ليالي الأندلس حتى ضحى اليوم التالي. أما ابن زيدون فقد نام هو الآخر نوما جميلا لم ينمه من قبل، لكنه لم يستطع أن يطيل في النوم فهو أحد رجالات الدولة برتبة وزير وعليه مسؤوليات لا بد من متابعتها، إلا أن لقاءه بولاّدة ليلة البارحة أعطاه من الطاقة الجسدية والنفسية والفكرية ما يعوضه عن النوم ويساعده على متابعة شؤون الناس ومصالحهم.إنه الحب ومفاعيله فكيف إذا كان بين عاشقين تأخر موعد لقائهما لسبب أو لآخر كابن زيدون وولادة. { ملحوظة: قصة مستوحاة من سيرة ابن زيدون وولادة بنت المستكفي. { كاتب وسوسيولوجي بحريني
مشاركة :