وصف بغداد في العصر العباسي

  • 8/25/2018
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

تأسست بغدادُ في عام 145هـ/ 762م في عهد أبي جعفر المنصور. وبعد فترة وجيزة من تأسيسها أضحت حاضرة الخلافة العباسية، وباتت «قلب الدنيا» كما وصفها كثر من الرحالة والمؤرخين. وقد حظيت المدينة باهتمام عدد من كبار قدماء المؤرخين ومنهم: الطبري في كتابه «تاريخ الأمم والملوك»، والمسعودي في كتابه «مروج الذهب»، وابن مسكويه في كتابِه «تجارب الأمم»، وابن الجوزي في كتابِه «المنتظم في تاريخ الملوك والأمم»، واليعقوبي في كتابِه «البلدان»، والخطيب البغدادي في كتابِه «تاريخ بغداد»، وابن الطقطقي في كتابه «الفخري في الآداب السلطانية والدول الإسلامية». وسأقتصر هنا على مقتطفاتٍ تصفُ بغداد من زوايا متعددة عند كلٍ من: اليعقوبي، والخطيب البغدادي، وابن الطقطقي. وقد كان اليعقوبي والخطيب من مشاهير مُؤرخي المدن الإسلامية، أما ابن الطقطقي فكان من مشاهير كُتَّاب الآداب السلطانية. رسم اليعقوبي (ت: 278هـ/ 891م) في كتابه «البلدان»؛ الملامحَ العامة لعمران بغداد ومشهدها البصري العام. ونبَّه إلى أن أهمَّ ملامحها هو: أنها «مدينةٌ مستديرةٌ». وكان هذا التصميم الدائري مستوحًى من سوابق العمارة المدينية التي عرفتها حضارةُ بلاد ما بين النهرين قبل الإسلام. ولم يجد مؤسسو بغداد الإسلامية أي غضاضةٍ من الاستفادة من هذا التقليد العمراني، مع إعادة صوغِه وفق المعايير الوظيفية والمقاييس الجماليةِ المستمدة من القيم الإسلامية. بعد أن أشارَ اليعقوبي إلى إنشاء بغداد وسط ساحة شاسعة خالية من أي بناء، وبعد أن أشادَ بها، أورد بيانات تصف مكوناتها العمرانية الأولى. ومما جاء في وصفه: أن المنصورَ «شيَّد قصراً تعلوه قبةٌ خضراء هائلة، وإلى جانبه الجامع الكبير». وذكر أيضاً أن المنازلَ المخصصة لاستقبال نخبة موظفي الدولة والكبار من قادة العسكر؛ توزعت حول القصر في شكل منتظم. وقد تضمنت هذه النواة أربعة شوارع لكل منها باب: باب البصرة، وباب الكوفة، وباب خراسان، وباب الشام. وكان من شأن هذه الأبنيةِ أن تثيرَ البهجةَ، وتدعو إلى الهيبة والاحترام في نفوس المقبلين والناظرين إليها من ظاهر المدينة. ثم وصفَ بعضَ تفاصيل تصميم بغداد العمراني والمساحات العامة التي ميزتها وقال:» ووقع لكل أصحابٍ؛ ما يصير لكل رجل من الذَّرع، ولمن معه من أصحابه، وما قدره للحوانيت والأسواق في كل ربض، وأمرَهمر(المنصور) أن يوسعوا في الحوانيت؛ ليكونَ في كل ربض سوقٌ جامعةٌ، تجمع التجارات، وأن يجعلوا في كل ربضٍ من السكك والدروب النافذة وغير النافذة ما يعتدلُ المنازل... وحدَّ لهم أن يجعلوا عرض الشوارع خمسين ذراعاً بالسوداء، والدروب ستة عشر ذراعاً، وأن يبنوا في جميع الأرباضِ والأسواق والدروبِ من المساجد والحمامات ما يكفي مَنْ في كلِّ ناحية ومحلةٍ». وأورد اليعقوبي أيضاً إحصاءاتٍ عن بعض المنشآت العمرانية التي استوعبت الكثيرَ من فنون التصاميم الهندسية والجمالية ذات الوظائف الكثيرة، والمنافع المتعددة، ومنها: أن بغداد كان فيها في نهاية القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي ما مجموعه 45.000 مسجدٍ ومصلى (خمسة وأربعون ألف مسجد ومصلى). ومثل هذا المبالغات نجدها عند مؤرخ بغداد الكبير؛ الخطيب البغدادي. أما الخطيبُ البغدادي (ت: 463هـ/ 1071م) فقد استهل كتابَه «تاريخ مدينة السلام وأخبار قُطَّانِها العلماء من غير أهلها ووارديها» بوصفٍ مطول للمدينة، وركَّز على مكوناتِها العمرانية، وأقسامِها الأساسية التي تشكلت منها شخصيتُها العمرانية باعتبارها عاصمةَ الخلافة العباسية وهي في أوج عظمتِها. وقد أشاد بفنونها المعمارية والجمالية الماديةِ والمعنويةِ معاً، ومما جاء في وصفه: «مناقب (بغداد) التي أفردَها الله بها دون سائر الدنيا شرقاً وغرباً، ومن بين ذلك: الأخلاق الكريمة، والسجايا المُرضِية، والمياه العذبة الغدقة، والفواكه الكثيرة الدمثة، والأحوال الجميلة، والحذق في كل صنعة، والجمع لكل حاجة، والأمن من ظهور البدع، والاغتباط بكثرة العلماء والمتعلمين، والفقهاء والمتفقهين، ورؤساء المتكلمين، وسادة الحساب، والنحوية، ومجيدي الشعراء، ورواة الأخبار والأنساب، وفنون الآداب، وحضور كل طرفة، واجتماع ثمار الأزمنة في زمن واحد؛ لا يوجد ذلك في بلدٍ من مدن الدنيا إلا فيها؛ لا سيما زمن الخريف، ثم إذا ضاق مسكنٌ بساكن، وجد خيراً منه، وإن لاحَ له مكانٌ أحبّ إليه من مكانِه لم يتعذر عليه النقلةُ إليه من أي جانب من جانبيه أراده، ومن أي طرف من أطرافه خفَّ عليه، ومتى هربَ أحد من خصمه، وجد من يستره في قربٍ أو بُعدٍ». يقول فرانسوا ميشو في دراسته عن بغداد في العصر العباسي: «إنها غدت عاصمة عالمية متعددة الطوائف»، وأن التصورات التي ذكرَها الخطيبُ البغدادي «ارتقت ببغدادَ إلى مصاف مدينة فريدة تحيا في قلب الدنيا، وتجمع بين ميزات جميعِ المدن الأخرى وثروات، وهي أقرب إلى الرمزية منها إلى الحقيقة، بخاصة بعد تراجع السلطة الخليفية... مع ذلك، فهي تصورات قوية، ولا تزال ماثلة حتى اليوم، في خيال العرب؛ لأنها تُعبر عن توقٍ لماضٍ عظيم، وترمز إلى حلم بأمة مسلمة موحدة». ويوحي كلام ميشو بكثير من التحفظات عمّا ذكره الخطيب البغدادي. وقد يكون معه بعض الحق لا كله؛ حيث إن ما أورده البغدادي فيه بعضُ المبالغات ومنها قوله: أن الحمامات بلغ عددُها في بغداد في عهد المأمون 65.000 حمام (خمسة وستين ألف حمام)، لكلٍ منها خمسة خدام (=300.000 خادم)، وأن كلَّ حمَّامٍ كان يخدمُ خمس مصليات، ولكلِّ مصلى خمسة أشخاص (=300.000 خادم). وتبدو المغالاةُ واضحة في تلك الإحصاءات، ويبدو منها أن الغرض هو إظهار عظمة المدينة وعلو شأنها، وبيان بلوغها أوج مجدها في عصر المأمون. وللخروج من هذه المبالغة؛ يرجح المؤرخ العراقي الراحل الدكتور عبدالعزيز الدوري أن عددَ حمامات بغداد في ذلك العصر بلغَ 1500 حمَّامٍ (ألفاً وخمسمئة حمام) في نهاية القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي، وأن كلَّ حمام كان يخدمُ مئتي منزلٍ. وبافتراض أن كل منزل فيه خمسةُ أفراد، فإن إجمالي عدد سكان بغداد يكون مليوناً ونصف المليون نسمة وهي في أوج مجدها آنذاك. وإذا أخذنا في الاعتبار عديد المنشآت الأخرى، ودقَّقنا في أوصافها ووظائفها ومواقعها على خريطة المدينة؛ فإنها في مجملها تؤكد الأهمية الجمالية التي كانت تضفيها على المدينة، إلى جانب منافع هذا العدد الكبير من الحمامات ودورها الكبير في النظافة البدنية، وفي الصحة العامة لسكان بغداد، وأيضاً في نظافة بيئتها الداخلية. ومعلوم أن النظافة العامة والخاصة هي من الوسائل الأساسية لبلوغ كليات المقاصد الشرعية الخمس: حفظ الدين، وحفظ العقل، وحفظ النفس، وحفظ النسل، وحفظ المال. ولعل هذا بعض ما دفع المتنبي ليتغنى ببغداد في قصيدته قائلاً: بغداد أنت دواء القلب من عجز... بغداد أنت هلال الأشهر الحرم! بعد ما يقرب من ثلاثة قرون على وصف البغدادي، جاء ابنُ الطقطقي (ت: 709هـ/ 1309م)، ووصفها مجدداً عند نشأتها الأولى، في كتابِه: «الفخري في الآداب السلطانية والدول الإسلامية». ومما جاء فيه أن أبا جعفر المنصور خرج بنفسه يرتادُ موضعاً يسكنه، ويبني فيه مدينةً له، ولأهله ولجنده، ثم أرسل جماعةً من الحكماء ذوي الألباب والعقول، وأمرهم بارتياد موضع فاختاروا له مدينته التي تسمى مدينة المنصور... «فحضر إلى هناك واعتبرَ المكان ليلاً ونهاراً، فاستطابه، وبنى فيه المدينة». وقبل الشروع في بناء بغداد، يقول المؤرخون: «خُططت المدينة، ورُسِم التخطيطُ بالرماد؛ ووضعت كراتٌ من القطن مشبعة بالنفط، ثم حُرقت هذه الكرات، فتركت آثاراً، ثم بدأوا حفر أساس المدينة مكان هذه الآثار، وأشرف خمسةُ مهندسين على التصميم، وكان الإمام أبو حنيفة (صاحب المذهب) رضي الله عنه يقومُ بعدِّ (الطوب) اللبن والآجر، ويقيسه بمسطرة مدرجة اخترعها لهذا الغرض لاختصار عملية العدِّ، كما كان رضى الله عنه واحداً من أربعة مشرفين شاركوا في البناء. وجعل المهندسون البناؤون عرضَ السور من أساسه خمسين ذراعاً (الذراع تساوي 51.8 سم)، ومن أعلاه عشرين ذراعاً. وخصصوا ثلثَ مساحة المدينة للميادين والحدائق والملاعب. وقد ابتدأ البناءُ عام 145هـ، وفي عام 146هـ نقلوا إليها بيت المال والديوان، وفي عام سبع وأربعين ومئة، تم البناء. واشتهرت بأنها «مدينة مدورة». وتذكر المصادر التاريخية أيضاً أن محيط بغداد (المدور) بلغ 16 ألف ذراع، وبلغ قطرها 5093 ذراعاً، وأن سورها كان عليه 113 برجاً، ويحيط به من الخارج خندق عميق بعرض 11 ذراعاً، وأُجري فيه الماءُ من قناة كانت تخرج من نهر يسمى «كرخايا». وهذه الإشارة التاريخية التي أوردها ابن الطقطقي عن مشاركة الإمام أبي حنيفة في جهود تأسيسِ بغداد تدلُّ بوضوح على مساهمة الفقه في وضع المعايير العمرانية والجمالية والوظيفية لهذه المدينة التي غدت بمرور الزمن؛ بخاصة إبان ازدهارها، نموذجاً عالمياً لما يجب أن تكون عليه المدينة الإسلامية، من حيث تشكيلُها العمراني وفنونه وجمالياته العامة. وقد عرَّف الإمام الأعظم أبو حنيفة المصرَ الجامع أو المدينةَ أنها هي: كلُّ بلدة فيها سكك، وأسواق، ولها رساتق (قرى)، ووالٍ لدفع المظالم، وعالمٌ يرجع إليه في الحوادث». ويظهر من وصف المؤرخين «مدينة بغداد» أن هذا التصور العام قد انتقل من الحيز النظري إلى حيز التطبيق؛ إضافةً إلى أن تلامذة الإمام قد نقلوا عنه هذا الاجتهاد، وأضافوا إليه، ونشروه في جهات مختلفة من البلدان الإسلامية. لكن هجمات المغول قضت على بغداد مرتين، الأولى في عام 656هـ/ 1258م على يد هولاكو، والثانية في عام 803ه/ 1401م، على يد تيمورلنك، وحلَّ فيها الخرابُ بعد العمران، والقبحُ بعد البهاء والجمال. وكتب المقريزي في خططه الذائعة الصيت، معبراً عن ألمه مما حل بعاصمة الخلافة، ومشيراً إلى أنها كادت تفقد صفة «المدينة» نظراً إلى ما حل بها من الخراب وما كساها من القبح، ومما جاء في وصفه قوله: «بغداد مخربة؛ غابت عنها الأسواقُ والجوامع، وغاب عنها المؤمنون والمؤذنونَ، وجفَّ فيها معظم أشجار النخيل، وانسد معظمُ القنوات، وأنه يصعب تسميتها مدينة».

مشاركة :