أنقرة - تعد أزمة تركيا الدبلوماسية الحالية مع الولايات المتحدة أخطر تدهور في العلاقات بين العضوين الشريكين في حلف شمال الأطلسي منذ ستة عقود، لكن بالنسبة لأنقرة، فهي ثاني أزمة خطيرة مع قوة عالمية في غضون عامين اثنين فقط بعد نزاع مع موسكو عقب إسقاط مقاتلة تركية لطائرة حربية روسية عند الحدود السورية في نوفمبر 2015. وبرغم اختلاف ملابسات كل أزمة عن الأخرى، فربما توجد سوابق من الخلاف الذي دام سبعة أشهر مع روسيا قد تنبئ بما ستنتهي إليه الأزمة الدبلوماسية الحالية. الأزمة الروسية التركية سعت موسكو لتوبيخ أنقرة والضغط عليها بسبب أفعالها بفرض عقوبات صارمة على تركيا، قال كريم هاس، المحلل المقيم في موسكو المتخصص في الشؤون الروسية والتركية وسياسات الأمن والطاقة الأوروآسيوية، إنها “طالت كل أوجه التعاون الثنائي… وأجبرت الرئيس رجب طيب أردوغان على التحول 180 درجة وتقديم تنازلات لروسيا بعد سبعة أشهر فقط”. ويقول آرون ستاين الباحث في مركز رفيق الحريري للشرق الأوسط التابع لمجلس الأطلسي، إن تعامل روسيا مع تركيا خلال تلك الفترة “كان أشد حدة مقارنة مع النهج الأميركي حتى الآن”. وأضاف ستاين “استخدمت موسكو أدوات أشد قسوة بكثير مما استخدمته الولايات المتحدة في المعركة حتى الآن”، مشيرا إلى أن إذعان تركيا لموسكو بعد سبعة أشهر من حادث الطائرة الحربية كان مدفوعا بحاجة تركيا إلى التدخل عسكريا في الصراع السوري، وهو ما فعلته في أواخر أغسطس 2016. وقال “لذلك فقد كانت الظروف ملحة”. وقال ستاين “في حين أن الأزمة الحالية مع الولايات المتحدة شهدت هبوط الليرة إلى مستويات تاريخية منخفضة مقابل الدولار، فإن سوء إدارة تركيا هو المسؤول عن المشكلات الاقتصادية”. وأضاف أنه برغم ذلك “في ظل الخلاف المتزامن مع واشنطن، لا تستطيع أنقرة إصلاح أخطائها قبل تقديم تعويضات جادة للولايات المتحدة”. وأضاف “إلى متى يمكن لأردوغان أن يصمد؟ لا أعلم. الأمر يرجع إليه، لكني أتوقع أن تواصل الولايات المتحدة التصعيد”. ويعتقد تيمور أحمدوف الباحث لدى المجلس الروسي للشؤون الدولية المقيم في أنقرة، أن وجه الاختلاف الرئيسي في الأزمة الحالية مقارنة مع الأزمة الروسية السابقة هو “عوامل الضمان في العلاقات التركية مع روسيا والولايات المتحدة”. وقال أحمدوف “خلال أزمة الطائرة الروسية كانت تركيا أكثر نزوعا إلى الحل الوسط مع موسكو لأن المزيد من التصعيد في المواجهة ربما كان سيمتد بسهولة إلى مجالات سياسية قد تهدد أمن تركيا… في ذلك الحين، كان من الممكن أن تشكل روسيا خطرا جسيما على المصالح التركية في سوريا، وكان يمكن أن تستغل القضية التركية بدرجة أكبر داخل تركيا نفسها”. وفي المقابل، فإن الأزمة الحالية مع الولايات المتحدة “ذات طبيعة سياسية في حين جرى حفظ التعاون بشأن القضايا العسكرية والأمنية جانبا كمجال منفصل للتعاون وبمنأى عن التقلبات السياسية”. ويعتبر أحمدوف أن “هذا ممكن بسبب الروابط الكثيرة بين الدوائر التجارية والسياسية والمجتمع المدني، أمور كثيرة جدا تحول دون تدهور العلاقات الثنائية إلى درجة تهدد الأمن القومي التركي”. وقال إن إلغاء الولايات المتحدة للطلبية التركية من المقاتلات المتطورة إف-35 سيرقى إلى حد “قضية سياسية” دون أن يؤثر على أمن تركيا نظرا لأن “أمنها القومي لن يكون مهددا إذا لم تحصل عليها”. علاوة على ذلك، يقوم الجيش الأميركي حاليا بتدريب قوات الجيش التركي على القيام بدوريات مشتركة حول مدينة منبج في شمال سوريا، حيث توصلت واشنطن وأنقرة إلى اتفاق بشأن خارطة طريق لإخراج أكراد سوريا خصوم تركيا من المدينة ذات الغالبية العربية في وقت سابق هذا العام. وينفذ الجانبان سلسلة من “الدوريات المنسقة والمستقلة” حول المدينة، وهذا التدريب سيمكن الجيشين من العمل معا جنبا إلى جنب فعليا، وهو دليل على الحقيقة الواضحة بأن التعاون العسكري والأمني لم يتأثر بالأزمة حتى الآن. ويشير هاس إلى أنه برغم ظهور التحسن في العلاقات الروسية التركية في صيف 2016 “لا تزال بعض العقوبات الروسية قائمة، وحتى مسألة رفع ‘الحظر الرمزي‘ على صادرات الطماطم التركية إلى روسيا لا تزال إشكالية جزئيا”، بعد مرور أكثر من عامين. وقال “كل العقوبات الروسية، التي رفعت خلال هذين العامين، استخدمت فعليا كورقة مساومة في العلاقات مع تركيا، ورفعت موسكو العقوبات خطوة بخطوة بناء على التعاون مع أنقرة في سوريا”. وأضاف أن “العودة إلى مستوى التعاون قبل الأزمة لم يحدث حتى الآن كما كانت تتوقع أنقرة”. فضلا عن ذلك فإن “التقارب” بين أنقرة وموسكو لم يكن “نتيجة تخطيط استراتيجي طويل الأمد بين الجانبين، وإنما كان وليد شراكة قهرية استندت إلى القضية السورية، وتواجه في الوقت الحالي مخاطر أمنية تلوح من محافظة إدلب”. سياسات متباينة أردوغان يسعى إلى جذب الاستثمارات من أوروبا ودول الخليج في محاولة لتخفيف الأزمة الاقتصادية أردوغان يسعى إلى جذب الاستثمارات من أوروبا ودول الخليج في محاولة لتخفيف الأزمة الاقتصادية الأزمة الأميركية التركية الحالية هي نتيجة لسلسلة من السياسات المتباينة، من دعم الولايات المتحدة لأكراد سوريا إلى مواصلة تركيا سجن القس الأميركي أندرو برانسون ورفض واشنطن تسليم الداعية التركي فتح الله غولن المتهم بالوقوف وراء محاولة الانقلاب الفاشلة في 2016 وشراء تركيا صواريخ إس-400 الروسية فضلا عن القضية المرفوعة ضد بنك خلق بسبب دوره في برنامج للتحايل على العلاقات الأميركية على إيران. ويتوقع كريم هاس أن تشهد العلاقات المزيد من التوتر، بعد فرض المجموعة الثانية من العقوبات الأميركية على إيران في نوفمبر المقبل. وقال “أيضا، يتردد الآن في الولايات المتحدة أنه قد تبدأ قريبا محاكمة ثانية استمرارا لقضية بنك خلق تتعلق ببعض هياكل الدولة والسلطات التركية بسبب دعم الإرهاب”. وأضاف هاس “كل هذا يظهر شيئا واحدا، وهو أن الأزمة التركية الأميركية تكتسب طبيعة هيكلية، سيتطلب حلها سنوات طويلة حتى إذا أفرجت السلطات التركية عن برانسون”، مشيرا إلى أنه “برغم أن التحول الجذري في سياسة أردوغان مع إدارة ترامب بشأن أزمة برانسون محتمل دائما، فلا أعتقد أن ذلك سيؤدي إلى تسهيل العلاقات مع الولايات المتحدة في المدى البعيد”. أوجه المقارنة الأخرى التي عقدها هاس بين الأزمتين هي “اتجاهات أنقرة” في المناسبتين. فخلال الأزمة مع روسيا ألقت القيادة التركية باللوم على الجانب الروسي في حادث الطائرة وعززت سلطتها في السياسة المحلية من خلال التوجهات القومية والإسلامية الصاعدة في المجتمع. وربطت السلطات التركية بين التباطؤ النسبي في الاقتصاد والأزمة مع روسيا. وفي الأزمة الحالية مع الولايات المتحدة تعطي القيادة التركية فرصة لإلقاء اللوم على إدارة ترامب في أزمة كانت مرتقبة منذ فترة طويلة في الاقتصاد التركي. وقال هاس “تركيز السلطة في قبضة رجل واحد في تركيا يتعزز بالتأكيد بالتوازي مع الأزمة مع الولايات المتحدة. كل أحزاب المعارضة تقريبا وقفت بالفعل إلى جانب القيادة التركية”. ويسعى أردوغان إلى جذب الاستثمارات من أوروبا ودول الخليج في محاولة لتخفيف الأزمة الاقتصادية. ويتوقع هاس أن يكون ذلك صعبا بالنسبة لأنقرة “نظرا لأن الثقة المتبادلة عند أدنى مستوى لها في التاريخ، باستثناء ما يتعلق بقطر”. وأضاف “في الواقع، ستكون لوضع سيادة القانون ونظام العدالة في تركيا على الأرجح تأثيرات حاسمة على قرارات تلك البلدان بشأن الاستثمار في تركيا”. وقال “التعليق الفعلي لعملية انضمام تركيا لعضوية الاتحاد الأوروبي، التي كانت المحرك الرئيسي للاستثمار في تركيا بالنسبة للأطراف الأخرى في مطلع الألفية الجديدة، يشكل أيضا عاملا مثبطا للكثير من السلطات المالية في الخارج”. كون تركيا عاصمة مركزية لأهم البنوك الأوروبية ربما يدفع بعض بلدان الاتحاد الأوروبي إلى محاولة تقليص خطر انهيار الاقتصاد التركي والعمل على تهدئة الخلاف الأميركي التركي. غير أن هذا الحل لن يكون، وفق هاس، أكثر من علاج قصير الأجل ولا يشكل سبيلا للخروج من المشكلات الهيكلية التي تعاني منها تركيا.
مشاركة :