لا يبدو أن إحياء مكتبة آشور بانيبال في الموصل، التي عمرها 3 آلاف سنة، سيتم في المدى المنظور، على الرغم من أن مؤسسات وجامعات عالمية أبدت استعدادها للتبرع لها بمئات العناوين من الكتب. هذه المكتبة كانت إحدى ضحايا الحرب، التي دارت في الموصل بين تنظيم داعش، من جهة، والقوات الحكومية والحشد الشعبي، من جهة ثانية، فقد توقف العمل بها منذ سنة 2014. وتبدأ قصة إحياء المكتبة سنة 2001، أي قبل الاحتلال الأميركي للعراق بسنتين، ووصل البناء إلى نهاياته، لكن المشروع كله تعرض للعرقلة نتيجة الغزو الأميركي للعراق سنة 2003، واستؤنف مرة أخرى سنة 2004 من خلال مبادرة جامعة “ستوني بروك” نيويورك، التي قدّمت أكثر من ألف كتاب ودورية للمكتبة، بالإضافة إلى مجموعة من الكتب من المعهد البريطاني لدراسات العراق، ومن المعاهد الأثرية، غير أن المكتبة، لا تزال متروكة على وضعها، وبحسب أولويات إعمار جامعة الموصل فقد تكون في الدرجة الأخيرة من الاهتمام. الدواعش أعداء للفكر والثقافة والحياة أيضا يأتون على كل صرح حضاري فيتركونه ركاما، هم يخافون منطق العقل ويرفضون ما أنجزته الشعوب عبر التاريخ، لكن الحياة تستمر بل لا تستمر إلا بوجود ثقافة الحياة التي ساهمت فيها الحضارات عبر التاريخ. يقول ثائر السمان عميد كلية الإدارة والاقتصاد في جامعة الموصل لـ”العرب”، “لا يمكن البدء في إعمار المكتبة الآشورية لوجود أولويات تتقدّم عليها، فالمكتبة المركزية مدمرة بالكامل ومحروقة، ورئاسة الجامعة الجديدة والقديمة والأقسام الداخلية دمرتها الصواريخ بالكامل، وكليات الهندسة، والطب البيطري والطب والمستشفيات التعليمية مدمرة بالكامل، وقد تم البدء، الآن، برفع الأنقاض، فضلاً عن أن مطبعة الجامعة محروقة ومحتوياتها كافة سرقت ولم تخلُ حجارة فيها من الأذى، أما كلية الإدارة والاقتصاد فقد أحرقت الطوابق الأرضية جميعها وتم الانتهاء من إعادة إعمارها بالكامل قبل يومين من عيد الأضحى هذا العام، ومن هذا يتضح أن المكتبة الآشورية سيكون إعمارها متأخرا”. وللتذكير فإن بعثة بريطانية في المدة ما بين 1845 – 1854، اكتشفت في موقع “كيونغيك” بمحافظة نينوى، 26 ألف لوح طيني مدوّن عليها نصوص باللغة الأكادية تعود إلى القرن السابع قبل الميلاد، في قصر آخر ملوك الإمبراطورية الآشورية “آشور بانيبال”، الذي أحرق، بعد تدمير نينوى عام 612 ق. م، وتحتوي المكتبة على العديد من المواضيع المهمة مثل أخبار الحروب، والرسائل، والمعاهدات التي كانت للملك بانيبال، وقد تم تصنيفها في خمسة مجلدات محفوظة في المتحف البريطاني بلندن. يقول أستاذ التاريخ الحديث في جامعة الموصل إبراهيم خليل العلاف إنه ناشد وزارة التعليم العالي والبحث العلمي وجامعة الموصل والجهات ذات العلاقة، ومنها مجلس الوزراء ورئيس الوزراء النظر في إمكانية إكمال بناء مكتبة آشور في جامعة الموصل وهي حسب اعتقاده لا تحتاج كثيرا من الأموال. ويدعو العلاف إلى الاستعانة باليونسكو لإكمال المكتبة والعمل على فتحها للباحثين، مذكرا بأن جهات عديدة داخل العراق وخارجه أبدت استعدادها للتعاون في تزويد المكتبة بالمصادر والمراجع، ومن هذه الجهات مكتبة الإسكندرية في مصر. وهدفت المبادرة المصرية إلى إمداد مكتبة “آشور بانيبال” بمئة ألف كتاب، من خلال مخاطبة جامعة الموصل المؤسسات العلمية العربية، والمؤسسات الأكاديمية، فوجهت الدعوة إلى مؤسسة “جمعة الماجد” العلمية، ومؤسسة السلطان “علي عويس” الإماراتيتين، وجامعة “أم القرى” السعودية. وكانت جامعة الموصل قد تبنّت هذا المشروع سنة 2001، حسب مصدر في وزارة التعليم العالي والبحث العلمي ليكون مشروعا متخصّصا بعلم الآثار والدراسات التاريخية يقدّم خدمات للباحثين والمتخصّصين في دراسة تاريخ العراق وآثاره، وإقامة المؤتمرات والندوات العلمية وإصدار الكتب والمجلات العلمية. الكتب لا تموت الكتب لا تموت ويقول المصدر إن العمل كان جاريا على نحو جيد واستمر بعد 2003 وبعد احتلال داعش للموصل توقّف العمل في إنجاز هذه المكتبة. وصمّمت جامعة الموصل المبنى الضخم للمكتبة على النمط المعماري الآشوري، إذ استخدمت شكل الثور المجنّح والأبراج والشرفات المسنّنة والمرتقيات والمصاطب التي تتميز بها العمارة الآشورية، وأنشأت وحدة في الطابق الأرضي للمكتبة المركزية للجامعة باسم “آشور بانيبال” لحين الانتهاء من تنفيذ المباني الخاصة بالمكتبة. وتتكوّن المكتبة من 5 طوابق، منها طابقان تحت الأرض مخصصان كمخازن للكتب والأجهزة وغيرها، والطابق الأرضي يتكوّن من قاعات عرض متحفي لعرض نماذج لأهم الآثار العراقية، التي تمتد من العصور “السومرية ثم الأكدية والبابلية والآشورية”، وفترة ما قبل الإسلام ثم العصور الإسلامية المختلفة، وقاعات لعرض نماذج النصوص المسمارية المستنسخة من النصوص الأصلية الموجود بالمتحف البريطاني، وقاعات للندوات والمؤتمرات، أما الطابق الأول فيضمّ المكتبة التي تحتوي على الكتب والمقالات وغيرها، وقاعات للدرس، فيما خُصّص الطابق الثاني ليكون مركزا للمعلومات، والثالث سيُخصّص قاعات للاستذكار، والاطلاع للباحثين والزائرين، والطابق الرابع يحتوي على مكتبة لأقراص الليزر، وتم تصميم المكتبة لتضمّ كل الثقافات المتنوعة التي كوّنت العراق القديم، وكسيت من الخارج بمداميك من حجر”الحلان” ليماثل سور نينوى القديم، والشرفات ستكون على هيئة “البربيت” الآشوري، بالإضافة إلى المدخل الرئيسي للمكتبة، الذي سيكون شبيها ببوابة “نركال”، أو بوابة “المسقى” الآشورية، والشبابيك الخارجية ستكون على هيئة علامتين مسماريتين عموديتين، وسوف يتم تشجير محيط المكتبة بالأشجار والنباتات التي كانت موجودة في العصر الآشوري. أما داخل المكتبة، فسوف يتم عمل مشاهد آشورية شهيرة مثل صيد الأسود، ومشاهد من المعارك الحربية، ومشهد الاحتفال بانتصار الملك الآشوري آشور بانيبال، ومشاهد أخرى من عالم الحيوان والنباتات التي كانت موجودة بـ”آشور”، كما ستضم نماذج لأهم النصوص، وبالخط المسماري مثل مقاطع من “قصة الطوفان، ملحمة كلكامش”، كتابات تذكارية، رسالة ملكية، نص رياضي، نص فلكي، نص معجمي، وغيرها من النصوص الأثرية القديمة. قاعات المؤتمرات ستعكس العمارة الإسلامية حيث الأقواس، والأروقة التي ستتخذ حرف “النون”، إشارة للآية القرآنية الكريمة، وهكذا تمثل مكتبة آشور بانيبال الحديثة متحفاً طبيعياً للعصور العراقية التاريخية التي شكلت حضارة بلاد الرافدين العظيمة. ويحثّ أساتذة جامعة الموصل الجهات الحكومية على الاستعانة بمنظمات ثقافية دولية لإنجاز مشروع مكتبة “آشور بانيبال” ليكون علامة بارزة في إعادة إعمار مدينة الموصل، خصوصا وأن متاحف وجامعات من بريطانيا وألمانيا وأميركا أبدت استعدادها لتزويد المكتبة بكل ما يتعلّق بآثار حقبة آشور بانيبال ومخطوطاتها ولوائحها.
مشاركة :