كل من يحاول الغوص «إلى العمق» فى بحر سر السيدة العذراء، فلا بد من أنه سيشعر بالخوف والرهبة أمام هذا السر العظيم، يقول القديس أفرام السريانى فى شعره: يا معشر الفتيات، افرحن بالبتول الممتلئة عجبًا... البتول التى ولدت جبارًا قيّد الشيطان وسجنه... لئلا يغرّر بعد اليوم بالفتيات حلّت النار فى أحشائها... ضمّت الحبيب إلى صدرها... فما أرهب التحدث عن هذا السر العظيم حملت مصوّر الأجنة فى الأرحام.. ولدت مبدع الكائنات.. سقت مغيث العوالم حليبًا نقيًا.. فمن يجسر على التحدث عن هذا العجب.هكذا هو إحساسنا جميعًا عندما نتأمل سر البتول مريم، من منا يجسر على التحدث عن عجائبها؟ لكن عشقنا لها وحنانها علينا يدفعاننا لنفتح فمنا المتلعثم ونتمتم بكلماتنا الصبيانية عنها، عالمين أنها هى «ستملأه روحًا قدسًا»، هادمين سد الخوف بقوة أمواج الحب. فأفضل ما يمكن أن يقال هو التحدث عن شخص العذراء كمثال ونموذج لنا فى طرق ومعارج حياتنا الروحية، كنموذج ومثال لنا فى الفضائل المختلفة، أى كمثال لنا فى التواضع، فى الطاعة والتسليم، فى الصلاة والتأمل والصمت، وأخيرًا مثالنا فى الحب.مثالنا فى التواضعكان الاتضاع صفة تلك التى ولد منها المسيح، كان لابد لها أن تكون متضعة لتستطيع احتمال مجد التجسد الإلهى منه، مجد حلول الروح القدس فيها ومجد ميلاد المسيح منها، مجد تطويب جميع الأجيال لها، وما ينتظر هذه الإنسانة المتواضعة لكى يولد المسيح منها، ينتظر ذلك الكائن البشرى الذى يستطيع احتمال هذا السر الرهيب دون أن يسقط فى الكبرياء كما سقط الملاك المنير قبلًا وبسقوطه فى الكبرياء.العذراء مثالنا فى الطاعة والتسليمعاشت السيدة العذراء طاهرة فى الهيكل، وجاء الوقت الذى قيل لها فيه أن تخرج من الهيكل فلم تحتج ولم تعترض، كانت قد نذرت نفسها لحياة البتولية فأمروها أن تعيش فى كنف رجل حسب التقاليد فى أيامها، كانت تحيا حياة الطاعة والتسليم لمشيئة الله، فى هدوء بلا جدال. كانت قد نذرت البتولية ولم تنو يومًا أن تصير أمًا، ولما أرادها الله لتحمل المسيح لم تجادل بل أجابت بالقول الذى صار مثالًا لكل البشرية فى الطاعة والتسليم: «ها أنا ذا أمة للرب ليكن لى بحسب قولك»، لذلك وهبها الله الأمومة ولم ينزع عنها البتولية فصارت تلك التى فيها «يغلب نظام الطبيعة» تلك التى «التى فيها قد تم تدبير الأمرين كليهما معًا» أى البتولية والولادة، وأمرت أن تهرب إلى مصر فهربت... وأمرت أن ترجع من مصر وتذهب إلى الناصرة فأطاعت وانتقلت وسكنت... كانت إنسانة مطيعة لمشيئة الرب بلا جدال، لذلك فإن القدير قد صنع بها عظائم... لأنه نظر إلى تواضع وطاعة أمتهمثالنا فى الصلاة والتأمل والصمتكان من تدبير الله أن يرقد أهل العذراء وأن تعيش فى الهيكل لأنها عاشت حياة الصلاة والتأمل والصمت. عكفت على الصلاة والتأمل وقراءة الكتاب المقدس، حفظت آياته، قرأت البنبوءات، أدركت وفهمت ما أظهر الرب للنبى حول ولادة المسيح ماسيا المنتظر وأدركت أنها سوف تتحقق فيها.صار الصمت من ميزات حياتها، رغم ما رأت من أحداث فى ميلاد الرب يسوع وما بعدها من أمور، رأت أحداثًا عجيبة تفوق احتمال عقول البشر، أقوال الرعاة وسجود المجوس، ظهور النجم وتسابيح الملائكة، كلام يسوع فى الهيكل.كلامها الوحيد الذى قالته لنا فى الإنجيل هو تلك الرسالة التى وجهتها وتوجهها لنا فى كل حين: «مهما قال لكم فافعلوه» (يوحنا ٥:٢). هى الأم الصامتة المصلية التى فى كل حين ترفع لحظيها إلى الرب، اللحظين اللذين ولو أغلقتهما فى ساعة رقادها، ولكنها تفتحهما فى كل حين كشمسين من نار، أما عرش الرب القدوس مصلية بتنهدات من أجل أبنائها، من أجل كل الأجيال وكل الأمم التى تطوبها.. هى مثالنا فى الصلاة الحارة أمام الرب وفى الصمت أمامه فى ذهول من سر تدبيره العظيم.مثالنا فى الحبإن العذراء إذا فقدت محبة الوالدين صارت محبة الله محور كل حياتها، ملأت لها قلبها وأنارته، ومحبة الله فى قلبها تفجَّرت ينابيع حب ورأفة نحو كل البشرية، صارت شفيعتنا لدى الرب، هذا الحب، هذا العشق، هذا الحنان وهذه الرأفة، هذه الصلوات والتضرعات، العذراء هى مثال وتعليم لنا لنتعلم الحب والصلاة والتضحية من أجل الآخرين، لنتعلم أن نقدّم لهم الحب والتضحية، لنتعلم أن نشعر بآلامهم وأحزانهم ونعيش معهم صليبهم، لنتعلم أن نفرح لفرحهم ولنجاحهم وألا نحسدهم ونغار منهم «فرحًا مع الفرحين بكاءً مع الباكين» (رومية ١٥:١٢).راعى كنيسة رؤساء الملائكة للروم الأرثوذكس
مشاركة :