على عكس الصورة المعهودة عن السياسيين ورجال الحكم في ربوعنا والبالغة الصرامة والتجهم والغموض بفعل الانعزال في أبراج السلطة العاجية، أثارت مشاركة نائب رئيس حكومة إقليم كردستان العراق قوباد طالباني أخيراً، في برنامج «أفين جن وجيان» الذي تقدمه مذيعة المنوعات الكردية المعروفة أفين آسو، وترجمته العربية «أفين... المرأة والحياة» على شاشة فضائية NET TV KURD، ضجة واسعة في الأوساط الإعلامية والسياسية في كردستان العراق ما بين مؤيد ومعارض. فالسياسي الشاب قدم صورة غير مألوفة عن رجالات الساسة في هذه المنطقة من العالم إثر مشاركته في برنامج حواري منوع وخفيف يغلب عليه طابع أنثوي ويقوم على فقرات متعددة تتضمن أسئلة واختبارات وعقوبات وغناء وطبخاً ومرحاً، وسط جمهور الحاضرين في الاستوديو. وجمع البرنامج في تلك الحلقة بين الخفة والبساطة وعمق المضمون، وطَرَق محطات مختلفة في حياة الضيف مسلّطاً الضوء على آرائه ومقارباته في السياسة والحوكمة والإدارة وصولاً الى أصغر تفاصيل الحياة اليومية للمواطنين، مركزاً على رحيل والده الرئيس العراقي السابق جلال طالباني العام الماضي، عبر تقرير مؤثر انهمرت خلال عرضه دموع الضيف والحضور من جمهور البرنامج داخل الاستوديو، وليسهب قوباد في الحديث عن والده الرئيس والإنسان الذي على مدى أكثر من نصف قرن بات اسمه صنو القضية الكردية. وكشف أن والده لم يره إلا بعد بلوغه الرابعة من العمر، إذ كانت العائلة تقيم في لندن ولم يتسنّ لطالباني الأب رؤية ابنه طيلة تلك الفترة الطويلة بفعل مسؤولياته في قيادة الثورة الكردستانية على نظام البعث، ولتوصيه قرينته هيرو خان أن يجلب هدية للطفل كونه ما عاد رضيعاً وبات متطلباً. لكن الأب بحكم انشغالاته، ربما، نسي الهدية، ما شكل خيبة أمل لدى الابن الذي كشف كيف أن والده وإن بعد عقود وتعويضاً عن ذاك الموقف، أغدق الهدايا على حفيده ابن قوباد. وهكذا، أسهب البرنامج في سرد وعرض تفاصيل وقضايا إنسانية وحياتية يعيشها الناس بمختلف خلفياتهم، ساسة وغير ساسة. فالبرنامج هنا يقدم وجه ضيفه الحياتي الخاص بعيداً من بروتوكولات المنصب الرسمي لاشتراطاته ومساحيقه. أما فقرة المفاضلة عبر عرض صورتي والديه وأيهما يختار دون الآخر كي يكون أحدهما، فكانت أصعب فقرات هذه المغامرة ليجيب أنه لولا أبيه لما كانت أمه والعكس صحيح، وليردف أن ثمة إغفالاً الى حد ما عند عرض تجربة جلال طالباني السياسية لدور عقيلته هيرو ابراهيم أحمد التي كانت رفيقة دربه وسنده وفي أحلك ظروف النضال والثورة، بخاصة عندما كان الزوجان في صفوف البيشمركة في جبال كردستان، فالاعتداد هنا بقيم الأمومة والأنوثة النبيلة مؤشر وعي حقوقي اجتماعي - سياسي متقدم. ويمضي البرنامج في أجوائه ومحطاته الشبابية المرحة دونما إسفاف وليتعرض الضيف مثلاً لعقوبات تشمل شرب أقداح متتالية من عصير الليمون البالغ الحموضة نتيجة تهربه أو اعتذاره عن الإجابة عن بعض الأسئلة، بخاصة في فقرة المفاضلات والاختيارات. ثم أوغل البرنامج في إماطة اللثام عن حياة ضيفه الخاصة، عارضاً مثلاً قبل الانتقال الى فقرة المطبخ مجموعة صور لجملة أطباق طعام من صنع نائب رئيس حكومة الإقليم، كما ارتدى قوباد صدرية مطبخ مكتوباً عليها: شيف قوباد. وسرعان ما شمر بعدها «الشيف قوباد» عن ساعديه لتقطيع اللحم الى شرائح ستيك والبدء بتتبيلها ومن ثم قليها وتحميصها مع تزيين الطبق لتقديمه بأبهى حلة. وفِي المحصلة، فإن حلقات وفقرات كهذه تساهم بطبيعة الحال في تقريب الساسة من الناس وفي تبديد هالات العظمة والقداسة حولهم وتقاليد القطع مع المجتمع المتشكلة على وقع التقوقع في عوالم السلطة الخفية وقوالبها المتخشبة. كسرت هذه الحلقة المميزة والحال هذه صورة و»هيبة» السياسي التقليدي الذي يجب ألا يشبه الناس العاديين دونما تماس مباشر معهم، وأن تكون حركاته وسكناته محسوبة بدقة وصرامة، وأن يحقر ويحط من قيمة كل ما هو دون القضايا الكبرى والمصيرية وفق السرديات السلطوية المنفصلة عن الواقع ويتعالى على عامة الشعب، محيطاً نفسه بهالات وحواجز تفصله عن الحياة الطبيعية وعن واقع الناس بآلامه وآماله. فنحن هنا إزاء نمط جديد للسياسي العصري الذي لا يخشى خوض غمار تجربة تلفزيونية كهذه ملؤها المطبات والمحاذير. وهي تعتبر سابقة في الفضاءين السياسي والتلفزيوني الكرديين والعراقيين، لكن يجب ألا ننسى أن طالباني الأب ذاته كان عبر تاريخه السياسي الطويل يراوغ القوالب الجامدة للساسة ورجال الدولة المترسخة في ثقافاتنا السياسية، الى درجة سرده أثناء مؤتمراته الصحافية ولقاءاته التلفزيونية النكت التي تطلق عليه في الشارع العراقي وهو يرأس جمهورية العراق الاتحادية كأول رئيس كردي ومنتخب لبلاد الرافدين... فالولد سر أبيه كما قال العرب.
مشاركة :