سنوات طويلة جداً صدعوا خلالها رؤوسنا بكلام أجوف عن الحرية ونداء أصم عن الإبداع ومطالب عمياء بحق التعبير. وكم أثقلوا أدمغتنا وصموا آذاننا وضيعوا أوقاتنا بحديث فارغ عن حرية الإعلام والفن والأدب والإبداع، مع توفير خلفية من التعليم والتربية والتنشئة. وحين تصاعدت مطالباتهم لوضع حد لمهزلة قنوات الفتنة، وطالبوا بإغلاقها حقناً للدماء، وتقليصاً لفاتورة الجهل التي توحشت بصك من صكوك الغفران المتاحة لدى رجال خلطوا بين الدين والسياسة، وبين الفقه والمصالح، دافعوا عن مطلب الإغلاق بأنه كان استثناء. وقتها قالوا إن الشاشات التي تحرض على الكراهية وتحض على الفتنة هي الشر الوحيد المطلق على الشاشات، وكل ما عدا ذلك يمكن علاجه، من دون المساس به بالرقابة أو المنع أو الحجب أو سحب الرخصة أو غير ذلك من خطوات سلبية. وحين اختارت الغالبية أن تصمت على دفع إعلاميين بأعينهم إلى الانزواء أو التوقف أو الترجل أو الاحتجاب وذلك في ضوء اتفاق «جنتلمان» بحكم «الظروف الاستثنائية» التي تمر بها البلاد، أو «المصلحة الوطنية العليا» التي لا تحتمل سخرية أو اعتراضاً أو حتى انتقاداً، استمرت عجلة الجور على حرية الإعلام في الدوران من دون أن يلتفت إليها أحد. إلا أن سرعة الدوران الأخيرة كانت أكثر مما يحتمل كثيرون. فحين طالب عدد من «المثقفين» ممن التقوا الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي قبل أيام بإغلاق القنوات الفضائية التي أطلقوا عليها مسمى «فضائيات رجال الأعمال»، انقلبت عليهم الدنيا، ليس حباً في فضائيات «رجال الأعمال» بالضرورة، أو حتى دفاعاً عن مشاهدتها، بمقدار ما كان انقلاباً يحاسب هؤلاء المثقفين على تذبذب مواقفهم، وازدواج معاييرهم، واهتزاز قواعدهم. فكيف لمن هو منصف في مجتمعه باعتباره «مثقفاً» يحمل شعلة التنوير، ويقود طريق التثقيف، ويضع النقاط على حروف التجهيل والتغييب والحجب والمنع أن يكون هو من يقود الطريق إلى الإغلاق والظلام. وبغض النظر عن ماهية المطالبات، فمع كثرة استثناءات الحجب، وتكرار حجج المنع، وتواتر شماعات الإغلاق يُخشى أن يفقد المثقفون من المطالبين بدعم حرية التعبير، وحماية الحق في الإبداع، والتخلص من مكبلات الجائز وغير الجائز من على الشاشات ما تبقى لديهم من رصيد في قلوب وعقول المشاهدين العاديين. ولعلها المرة الأولى التي يباغتنا فيها المشاهد العادي (المتحفظ بطبعه والذي طالما عبر عن مخاوفه من قنوات فيديو كليب جريئة أو شاشات أفلام خارجة أو ما شابه) بتساؤل استنكاري عما حل بالمثقفين أصحاب الأدمغة المتنورة والعقول المتفتحة والحريات المستفحلة من ردة بائنة وانتكاسة واضحة. فإذا كان رب الثقافة بالحرية ضارباً، فشيمة أهل الثقافة المنع والحجب والإغلاق.
مشاركة :