مدى تأثير خبرة الآباء على تربية الأبناء

  • 8/30/2018
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

عندما كنت تلميذًا بمدرسة الهداية الخليفية، في مرحلة السنة الثانية من الثانوية العامة، كان عمري حوالي 16 ربيعًا، أصرت إدارة المدرسة أن أدرس بالقسم العلمي رغم أنني كنت أرغب في الدراسة بالقسم الأدبي.. كانت حجتي المنطقية حينها، هي يقيني بأنني لا أنتمي إلى القسم العلمي.. فقد عانيت في السنة الأولى من المرحلة الثانوية من مادة الرياضيات بالذات، لكنني في الأخير، رضخت لقرار المدرسة، وكما كنت أخشى، فإنني رسبت في نهاية السنة في مادة الرياضيات.. وكانت أمامي فرصة لإعادة الامتحان النهائي بحسب نظام «الدور الثاني» حينها؛ أي أن أحاول اجتياز امتحان مادة الرياضيات خلال فترة الصيف، قبيل بدء السنة الدراسية.. وأنا في عمري الصغير، قررت ألا أعيد الامتحان، واخترت أن أضحي بسنة من حياتي الدراسية خشية الرسوب مرة أخرى في المرحلة الأخيرة من الثانوية العامة (التوجيهي)، وكنت شبه متيقن من ذلك التوقع! أعدت السنة الثانية حزينًا لإضاعة سنة من عمري، غير أنني عاندت المدرسة، وأعدت السنة في القسم الأدبي.. وقد كان.. وتميزت فيه، وكان ذلك القرار أعظم قرار اتخذته في حياتي، وقضيت بعدها سنوات من الدراسة الجامعية بين قطر وأمريكا وبريطانيا حتى نلت درجة الدكتوراه! وتقلدت خلال 30 سنة من العمل الأكاديمي مراكز مرموقة.. كل ذلك كان بفضل قرار حاسم اتخذته بمفردي في سن مبكرة.. لكن يبقى السؤال.. كم من تلاميذ المدارس يمتلكون ذلك الحس ليتحدوا الضغوط ويتخذوا قرارات حاسمة تلبي طموحهم وتتوافق ورغباتهم؟ كم من الجرأة يمتلكها الأفراد في مواجهة قرارات المدرسة أو الأهل، والتي قد لا تناسبهم، وقد تصبح وبالًا عليهم في مستقبل حياتهم؟ هذه التجربة التي عشتها ولمست مخرجاتها، جعلتني فيما بعد أقبل بقرار أصغر أولادي بعدم الانضمام إلى الجامعة مباشرة بعد تخرجه في المدرسة، لأنه لم يكن قد قرر بعد المجال الذي يرغب فيه.. وهو الآن يدرس تخصصًا اختاره بمحض إرادته ويراه مناسبًا لطموحه ورغبته.. وكذلك تقبلت فكرة قطع ابنتي (الكبرى) دراستها في مجال المحاسبة بعد سنة ونصف، وانضمامها إلى جامعة أخرى في مجال كانت ترغب فيه.. فتخرجت بتفوق وتوظفت فترة، ثم غيرت توجهها، وقررت مسارًا مختلفًا ودرست من جديد وتخرجت، وهي الآن تدرس أيضًا لنيل الماجستير..، وكذلك كان لهذه التجربة الشخصية أثر على تقبلي قرار أوسط أبنائي عدم القبول بوظائف لا يراها تلبي طموحه رغم تخرجه في الجامعة منذ بضع سنوات.. ولا يزال يجرب ويتوقع أن يجد مبتغاه في غير مجالات الوظائف العمومية التي لا تتوافق مع شخصيته.. ويعود صبري إلى يقيني بأن لكل منهم فروقه الفردية وشخصيته المميزة ورغباته المختلفة. كل هذه القرارات تعود من ناحيتي إلى تجربة شخصية مررت بها، وقد باتت مفترق طريق بالنسبة إلى موافقتي بأن أتماشى مع قرارات أبنائي وألا أقف حجر عثرة في طريقهم ما استطعت.. أنا أحب أن أسميها «خبرة».. وأقصد بها أنني جربت هكذا قرارات حاسمة، وكان فيها منفعة لي في حياتي.. ولن يكون من المعقول بعدها أن أعارض رغباتهم على أساس أنهم صغار في السن مثلًا، أو أنه لا بد لنا نحن الآباء من فرض قراراتنا عليهم.. لم ولن أتردد في الوقوف معهم والتكفل بكل ما يلزمهم ماديًا ومعنويًا حتى يجدوا طريقهم، كل بحسب شخصيته وطموحه ورغبته.. ولا أنكر أنني في قرارة نفسي قد لا أوافق على بعض قراراتهم، لكنني من منطلق خبرتي أتحلى بالصبر والأمل في أن يكون التوفيق حليفهم كما حالفني حينما قررت بمفردي إعادة سنة دراسية كاملة. رغم التوفيق الذي حظيت به في الجانب الأكاديمي والمهني، فإنني مررت أيضًا في حياتي بتجارب أخرى كانت فاشلة..، وخاصة في المشاريع التجارية.. واكتشفت بعد عدة محاولات لتنويع مصادر الدخل استعدادًا لمرحلة التقاعد أنني لست ذا عقلية تجارية (!).. خسرت مبالغ طائلة ذهبت أدراج الرياح.. وإنني على ذلك لست نادمًا، بل أعتبرها خبرة تعلمت منها عدم تكرار مثل هذه المحاولات لأنها لا تناسبني.. ودائمًا أكرر أمام أبنائي ذكر هذه التجارب عساهم يتعلمون منها دروسًا مفيدة.. فإنه حرام أن تذهب هذه التجارب الفاشلة من دون أن نتعظ منها جميعا.. وحرام ألا يستفيد الأبناء من تجارب آبائهم وتجارب الآخرين ممن سبقوهم.. لأنه كما تكون مجمل التجارب الناجحة ملهمة، لا بد أن تكون هنالك استفادة من التجارب الفاشلة.. وليس العيب في أن نقع في الأخطاء، بل إن العيب يكمن في عدم تعلمنا من أخطائنا، وقد علمتنا الحياة أنه لا يقع في الأخطاء إلا الشخص الذي يحاول ويعمل ويجرب ومنها نتعلم أعظم دروس الحياة. أما الذي يخشى المحاولة، فإنه لن يتعلم شيئًا جديدًا.. لن يتعلم النهوض من جديد ومجابهة التحديات.. لن تتطور لديه ملكات الصبر والاجتهاد والمثابرة. فأنا كأب، سيؤلمني كثيرًا ألا يستفيد أبنائي من بعض هذه الخبرات والدروس بكل مخرجاتها الإيجابية والسلبية، ولو من باب المعرفة بجوانب الحياة رغم يقيننا المنطقي بأن الخبرة بشكل عام ليست بالضرورة دائمًا ناجعة ومثمرة في حد ذاتها، لكنها كخبرة لا بد أن يكون لها منفعة يُستفاد منها، إما بتطبيقها إذا كانت ناجحة أو بتفاديها إن كانت فاشلة، لكن يجب عدم هدرها من دون الاستفادة منها. فالتجارب الناجحة يمكن تكرارها مع ما قد تحتاج إليه من أدوات مناسبة، بحسب الزمان والمكان، وما يطرأ من حاجات التطوير عند التنفيذ بحكم اختلاف الأوضاع الجديدة ومتطلبات كل عصر، وكذلك لا بد أن نتعلم من جل التجارب غير الناجحة، ونبحث عن كيفية معالجتها والتكيف مع تطور الحياة وتوافر الموارد المستجدة، لكن يجب ألا ندعها تمر مرور الكرام، ولا نتعظ منها بالشكل المناسب. وقد يجادل البعض في شأن وجود تلك الفجوة الزمنية بين الأجيال، واختلاف الزمان والثقافة بين آباء «الأمس»، وأبناء «اليوم».. وفي هذا يقول الأستاذ «أحمد عقاب» على صفحة موقع جريدة الأيام: «يقولون (لكل زمان دولة ورجال)، وكثر الجدل والكلام حول موضوع وجود فجوة بين الآباء والأبناء، وأن الآباء يفكرون بطريقة ما، والأبناء يفكرون بطريقة مغايرة تمامًا، ولعلك تسمع في هذا الصدد عبارات تقول إن الآباء يفكرون بطريقة قديمة، وأن الأبناء يفكرون بطريقة جديدة، الآباء في خندق التخلف والرجعية، والأبناء في صف التحضر والتقدمية.. الآباء أكثر خبرة.. نعم، لكنهم أقل ثقافة وعلمًا من الأبناء.. الآباء يفرضون آراءهم والأبناء ما لهم من محيص، ثم انعكس ذلك على وسائل الإعلام، حتى ظهرت أفلام ومسلسلات تناقش مثل هذه القضية كل على طريقته التي تعبّر عن نفس المضمون، فيما تمر الأيام والسنون، وتتسابق السنوات في تغيير ملامح وأفكار الناس باستمرار، ينسى الآباء في كثير من الأحيان، أنهم كانوا في يوم من الأيام أطفالاً وأبناءً، يتذمرون من طلبات وأوامر الآباء، ويجدون من وجهة نظرهم إجحافًا من الآباء بحقهم، وتقليلاً من شأنهم، فيما يغيب عن أذهان معظم الأبناء، أنهم سيقفون يومًا أمام أولادهم، يفرضون عليهم ما يرونه أنسب لهم في كل شيء، ويحددون لهم الخطأ والصواب، ويقسون عليهم أحيانًا وهو ما يرونه صوابًا في كثير من الأحيان». قد أتفق في بعض ما سبق من توصيف، غير أنني مؤمن بأن التجارب البشرية مكملة لبعضها البعض.. فنحن لا نزال نتعظ من خبرات من سبقونا عبر التاريخ.. فكل آبائنا وأجدادنا مروا في تجاربهم العملية والحياتية بكل مساوئها ومحاسنها.. والقسوة التي قد يبديها بعض الآباء أحيانًا نحو تصرفات وخيارات الأبناء لا تخلو من الحب تجاههم.. حيث يحرص الآباء على ألا يتضرر الأبناء من تلك التجارب السيئة التي خاضوها.. كما يسعدهم أن يروا الأبناء وهم يستفيدون من تجاربهم الناجحة كقدوة حسنة تدفعهم نحو النجاح والرقي ومزيد من السعادة والرخاء. ويمكنني أن أنهي موضوعي بأنني كلما تذكرت كل قول أو رأي أو نصيحة لوالدي في أمور حياتي، أتمنى أن تعود بي سنوات العمر لعلني أتفادى الكثير من المواقف السلبية التي مرت بي في مجمل تجاربي، والتي كان يمكن لي تجنبها لو أنني كنت تعاملت معها بشكل أنسب، متسلحًا بخبرات والدي الغنية في كل جوانبها.. ويؤسفني أنني لم أتعلم الاستفادة من كل نصائح الوالد في حينها، بل بدأت أعيها بعد أن أصبحت بدوري أبًا ومسؤولاً عن أبنائي. يقال إن أحد الأبناء سأل والده: «ما الفرق بين ابتسامتك وابتسامتي؟».. فأجاب الأب: «أنت تبتسم عندما تكون سعيدًا.. وأنا أبتسم عندما أراك سعيدًا».. وهنا لا بد لي أن أختم قولي بالدعاء إلى كل أب وأم اجتهدوا في رعايتنا، فاللّهم اجزهم عن الإحسان إحسانًا، وعن الإساءة عفوًا وغفرانًا، اللّهم اغفر لنا تقصيرنا في حقوقهم في حياتهم وبعد مماتهم، وأدخلنا وإياهم الجنة من غير حساب، ولا سابقة عذاب.. «رب ارحمهما كما ربياني صغيرًا». * أكاديمي بحريني متقاعد

مشاركة :