كانت علاقة الحضارة الإسلامية بالحضارة الصينية نقطة تاريخية مفصلية وعنصرًا مهمًا من عناصر الاستقرار الفكري والثقافي والحضاري، وهي علاقة تقوم على وحدة الأصل الإنساني والتكريم الإلهي للإنسان ومبدأ التعارف الإنساني.. ما يشق على الكاتب أي كاتب في الفكر الصيني هو التنقل بين مختلف الأزمنة التاريخية التي شاركت في صناعة مختلف المعتقدات والفلسفات والمذاهب والأفكار. وإن كانت تعاليم كونفوشيوس العقيدة الفكرية التي تدور حولها معظم الفلسفات الصينية، والتي كانت لها السيادة العقلية في الصين فلا شيء وجّه تاريخيًا الحياة العقلية في الصين وأثر في مسارها مثل فلسفة كونفوشيوس، فهي العقيدة المفتاح للفكر الصيني، والتي برهنت على قوتها وعبرت عن أسمى ما وصل إليه التصور الفلسفي الإنساني في الصين. واجهت فلسفة كونفوشيوس أولى المشكلات الفكرية عندما تراجعت أمام تعاليم الفلسفة البوذية الآتية من الهند، وبالذات بعد أن تكرست البوذية بصورة جماهيرية واسعة في المجتمع الصيني، عند ذلك أدرك كبار المنظرين الصينيين افتقار الفلسفة الكونفوشيوسية إلى قيادة فكرية جديدة تعيد لها حضورها العقلي، وذلك عن طريق إعادة قراءة التعاليم على أسس فلسفية وتفسيرات موضوعية، إذ لم يسمح أولئك المنظرون هزيمة الفلسفة في معقلها، وأمام هذا التحدي الكبير استطاع بصورة ما المفكر الصيني جوشي إعادة البناء الداخلي للفلسفة وصياغة تعاليم كونفوشيوس صياغة عقلية، وهو نفس الموقف الفكري الذي حدث مع الفيلسوف الهندي شنكارا حين آلت العقيدة الهندوسية إلى التراجع أعاد لها وهجها العقلي. أعاد جوشي للفلسفة حضورها العقلي، والتي على إثره تسيدت الحياة العقلية في الصين مرة أخرى. كان جوشي مفكرًا نابهًا وملهمًا قادت أفكاره الفلسفية الكونفوشيوسية إلى تبوؤ السيادة الفكرية في تاريخ الفكر الصيني، والتي على إثره أصبحت العقيدة المركزية في الصين. وعندما دخل الإسلام الصين وجد ألوانًا متشابكة من الأديان والفلسفات والمذاهب والمعتقدات، فالذي وحد الصين تاريخيًا الفلسفة وليس السياسة؛ ذلك أن الفلسفة البنية الناظمة لجوهر التفكير الأخلاقي في الصين. والحقيقة أن العلماء المسلمين كانوا مدركين حساسية الواقع العقائدي والفلسفي في الصين فسعوا إلى إيجاد مواءمة ما بين الحضارة الإسلامية والحضارة الصينية والمتمثلة في تعاليم كونفوشيوس، وذلك بإعادة النظر في المشتركات ما بين قيم الإسلام وتعاليم كونفوشيوس من منطلق الثوابت والمتغيرات ومناطق الاتفاق. وتحقيقًا لهذه الفكرة قامت شخصيات إسلامية صينية أمثال: وانغ داي يوي ويوسف ماتشو وليوتشي بالقراءة العلمية الجادة للتعاليم الكونفوشيوسية والطاوية والبوذية في البيئة الصينية، وتوظيف تلك الدراسة في سبيل التصالح والتقارب مع تلك الفلسفات وبالذات التعاليم الكونفوشوسية في المسائل التي تتعلق بالمبادئ والقيم الأخلاقية والمعرفية والإنسانية مع التمسك بالثوابت. وهنا تأتي الميزة الجوهرية للحضارة الإسلامية في التفاعل والتعايش والتواصل الحضاري مع كل المجتمعات البشرية. فالعقلية الإسلامية الناضجة الواعية تبقى قادرة على التحرك في مجال النصوص والفهم والاستنباط وتنزيل الأحكام خدمة للمصلحة بما لا يتعارض مع التوجهات الشرعية بحثًا عن قاعدة التعايش السلمي التي يختزلها النص القرآني في مصطلح التعارف، فالإسلام دين تبدت قدرته على التعايش مع كل الجماعات البشرية. من التبسيط اليوم وصف المجتمع الصيني بأنه يخضع لتعاليم كونفوشيوس على النحو الذي تصوره الأدبيات التقليدية الصينية. إن من الخطأ المنهجي قراءة المجتمعات من خلال تعاليم الفلاسفة أو أصحاب المذاهب الفكرية لأن حركة الواقع أكثر تعقيدًا من القوالب النظرية. فالحياة العقلية الصينية اليوم عبارة عن حركة تسويات وتوافقات بين مختلف الفلسفات والمعتقدات والمذاهب الفكرية، فهناك علاقة انسجام وتفاهم بين مختلف المعتقدات والفلسفات في الصين. ولعل سر الوجود الإسلامي في الصين تسامحه ونظرته الواسعة للأشياء، فقد كان هذا الوجود منفتحاً على الفكر والثقافة في المجتمع الصيني، وبنفس الروح المنفتحة تفاعلت الحضارة الصينية مع الحضارة الإسلامية فحدث نوع من التلاحم ما بين الفكر الإسلامي والفكر الصيني. فالتسامح الذي لازم تاريخ الإسلام في الصين في الأفكار والتعاليم وقبول التعددية الثقافية نظريًا وتطبيقيًا يعبر عن حقيقة التسامح الإسلامي. وهذا على حد تعبير أحد المفكرين أن على الحضارة الإسلامية ليس فقط التأقلم مع العالم الحديث وإنما أيضًا الاضطلاع بقيادة العالم. كانت علاقة الحضارة الإسلامية بالحضارة الصينية نقطة تاريخية مفصلية وعنصرًا مهمًا من عناصر الاستقرار الفكري والثقافي والحضاري، وهي علاقة تقوم على وحدة الأصل الإنساني والتكريم الإلهي للإنسان ومبدأ التعارف الإنساني، إنها الوسائل الأرقى للتعامل مع الآخر وفهمه وبناء جسور التعارف والتقارب والتواصل معه بالتأكيد على المشترك وتحديد وتضييق مساحات الاختلاف. إن ثمة أبعادًا حضارية تتجلى في تجسير العلاقة بين الحضارات والتي تترك أثرها بعمق على منعطفات التاريخ وتحولاته لتنمية التواصل الإنساني والثقافي والحضاري وما يترتب على ذلك من تصالح بين قيم الحضارات وقيم الانفتاح الإنساني.
مشاركة :