إذا كان من الممكن اختزال جميع الأسئلة والحوارات والنقاشات التي تجري في أوروبا اليوم في سؤال واحد، فإنه سيكون بلا منازع، ما مستقبل الاتحاد الأوروبي؟ فما يتفق عليه أنصار الاتحاد وخصومه يتمحور في أن المؤسسة التي أخذت في البروز بعد الحرب العالمية الثانية، تمر الآن بمرحلة مصيرية، وتقف عند منعطف تاريخي سيتحدد على أساسه مستقبلها، ولن يخرج كما يعتقد كثيرون عن خيارين، فإما أن تتكامل أوروبا أكثر فأكثر، وتنصهر فيما بينها، ليبرز الاتحاد الأوروبي في نهاية المطاف كقوة عظمى، أو أن يشهد الاتحاد مزيدا من تصاعد للتيارات الوطنية الرافضة لفكرة الوحدة الأوروبية، ما يقود في نهاية المطاف إلى تفتت الاتحاد إلى غير رجعة. ومثل الاستفتاء البريطاني بشأن البقاء أو الخروج من عضوية الاتحاد، الذي حسمه الناخب البريطاني لمصلحة خيار المغادرة، مؤشرا من وجهة نظر كثيرين على أن الخيار الشعبي في الاتحاد يسير حاليا نحو التفكيك والتفتت، فبريطانيا ثاني قوة اقتصادية في الاتحاد، ومع فرنسا تمثل ثاني اثنين في مجلس الأمن الدولي بما للمجلس من قوة في توجيه السياسات العالمية، وكان تفعيلها للمادة 50 الخاصة بالخروج من عضوية الاتحاد بمنزلة زلزال ضرب الاتحاد وبريطانيا في آن. ولم تكد قيادة الاتحاد تفيق من الصدمة البريطانية، وإذاا بها تفاجأ بأن حزب "الجبهة الوطنية" اليميني الفرنسي بزعامة ماري لوبان، الذي غير اسمه لاحقا إلى "التجمع الوطني" لكنه لم يغير مواقفه الرافضة للوحدة الأوروبية، يحتل المرتبة الثانية في انتخابات الرئاسة الفرنسية، ولم يكد الاتحاد يتنفس الصعداء بخسارة ماري لوبان الانتخابات الرئاسية الفرنسية، إلا وها هو اليمين الوطني المتطرف في إيطاليا يتبوأ سدة الحكم، وعلى الرغم من أن قادته لم يعلنوا بعد، وبشكل واضح وصريح الاستعداد للمضي قدما في اتجاه الخروج من عضوية الاتحاد، وإن اظهروا تبرؤا واضحا من بعض السياسات المشتركة - خاصة في مجال الهجرة - ليمثل ذلك خطوة في طريق الانسحاب التدريجي من الاتحاد. ناهيك بطبيعة الحال عن أعضاء آخرين أقل شأنا وتأثيرا في مسيرة الاتحاد مثل المجر، التي تتولى شؤونها قوة سياسية لا تترد في الإعلان بشكل لا لبس فيه رفضها عديدا من السياسات التي تبناها الاتحاد خاصة في مجال الهجرة، وترفض المضي قدما نحو مزيد من الخطوات التي تسمح بتعميق جذور الوحدة الأوروبية. وتقول لـ "الاقتصادية" الدكتورة راشيل جورج أستاذة الاقتصاد الأوروبي وأحد الأصوات البارزة في الدفاع عن الوحدة الأوروبية، "لفهم ما يحمله المستقبل في طياته من آفاق للاتحاد الأوروبي، علينا فهم وتقييم الوضع الحالي للاتحاد ولفكرة الوحدة الأوروبية برمتها. فالأصوات الرافضة للاتحاد أكثر ضجيجا، ويبدو في اللحظة الراهنة كأنها سيطرت على المشهد، وما وصلنا إليه لم يأت من فراغ بطبيعة الحال". وحول الأسباب التي أدت إلى ذلك رصدت مجموعة من العوامل، منها تحت ضغط اليمين الأوروبي ورغبته التاريخية في تطويق روسيا خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، فتم توسيع الاتحاد شرقا وضم بلدان أوروبا الشرقية إلى عضويته، وأغلب تلك الدول لم تكن تجربتها السياسية للتحول الديمقراطي قد اكتملت، والأكثر خطورة أن اندماجها في المنظومة الرأسمالية لم يكن قد تم فعليا، ولهذا مثلت إلى حد كبير عامل ضغط اقتصاديا على الدول الأكثر تقدما، عبر تحولها إلى مصدر للأيدي العاملة المهاجرة، وهو ما أوجد شعورا لدى الطبقة العاملة في الدول الرأسمالية المتقدمة في الاتحاد مثل بريطانيا وفرنسا وهولندا وألمانيا بأن الأيدي العاملة القادمة من بلغاريا ورومانيا على سبيل المثال تضيق عليها سبل العيش من خلال الحصول على وظائفها لانخفاض أجورها. وبحسب راشيل جورج، فإن من بين الأسباب التي أدت إلى ضعف الاتحاد الأوروبي التحول إلى عملة أوروبية موحدة، فرغم أن تلك الخطوة تعد خطوة رئيسية في مسيرة الوحدة الأوروبية، فإنها كانت تحتاج إلى مزيد من التأني، ولكن الرئيس الفرنسي السابق ميتران، وضع قبول ألمانيا بالعملة الأوروبية الموحدة "اليورو" شرطا لقبول فرنسا بوحدة ألمانيا الشرقية والغربية، ومن ثم لم يكن الاتحاد الأوروبي مستعدا كليا للقبول بالعملة الموحدة عندما أعلنت. ومن الأسباب أيضا، الطريقة التي تعامل بها الاتحاد الأوروبي وتحديدا ألمانيا مع اليونان في أزمة المديونية، حيث بعث برسالة إلى دول الجنوب الأوروبي الأعضاء في الاتحاد أن بلدان الشمال الأكثر تقدما مثل ألمانيا وهولندا وبريطانيا لن تتورع في ابتزاز اقتصادات مثل إسبانيا والبرتغال وقبرص إذا تطلب الأمر. ووفقا لأستاذة الاقتصاد الأوروبي فإن من بين الأسباب التي أدت إلى ضعف الاتحاد، المالية العالمية والضغط الألماني على بلدان الاتحاد لتبني سياسات مالية تقشفية، حيث جعل فكرة الاتحاد ترتبط في أذهان الملايين وخاصة الشباب بالضغط المالي والعوز وليس الرفاهية والانتعاش، ما ولد مناخا من الفتور والحنق الشعبي على الاتحاد. والمثير للدهشة بالنسبة إلى كثير من المختصين بالشأن الأوروبي، فإن المزيج الشعبي الراهن من التململ والغضب من أداء الاتحاد الأوروبي، يأتي في وقت يشهد فيه الأداء الاقتصادي للاتحاد تحسنا ملحوظا مقارنة بسنوات ماضية، فمعدل النمو في منطقة اليورو وفقا للبيانات الرسمية بلغ العام الماضي 2.4 في المائة، ويعد هذا أعلى معدل للنمو يتحقق في السنوات العشر الماضية. ويتوقع أن يتم الحفاظ تقريبا على معدل مشابه هذا العام، وتشير التقديرات إلى أنه سيبلغ 2.3 في المائة، إلا أنه بحلول عام 2019 سيتراجع النمو إلى 2.0 في المائة، بينما يأمل المصرف المركزي الأوروبي أن يصل معدل التضخم هذا العام إلى 1.5 في المائة ويرتفع قليلا العام المقبل إلى 1.6 في المائة. كما أن معدل البطالة في الاتحاد ككل آخذ في التراجع من 8.6 في المائة من قوة العمل عام 2016 إلى 7.1 في المائة العام الجاري و6.7 العام المقبل، وتلك المعدلات تقارب نظيرتها التي سادت قبل الأزمة الاقتصادية عام 2008. ويدفع ذلك بالبعض إلى اعتبار أن الأزمة الراهنة في الاتحاد تعود إلى إخفاقات في مجالات أخرى. أس تشارلز الباحث في الشؤون الأوروبية يقول لـ "الاقتصادية"، "إن الأزمة الراهنة للاتحاد الأوروبي تعبر عن مخاوف حقيقية ترتبط أكثر بقضية الهوية الأوروبية، التي تتجلى في رفض اليمين الأوروبي للمهاجرين القادمين من إفريقيا أو منطقة الشرق الأوسط أو العالم الإسلامي، وحتى قبل أن نتطرق إلى تلك النقطة فعلينا أن نتذكر أن ملف الهجرة وحرية تنقل الأيدي العاملة بين الدول الأعضاء في الاتحاد كان عاملا رئيسيا في تصويت الناخب البريطاني لمصلحة الخروج من الاتحاد، ونحن هنا نتحدث عن مهاجرين من أصول أوروبية، فما بالك عندما يكون المهاجر مختلفا معك في كل شيء لون البشرة والديانة واللغة والثقافة والمنظومة القيمية، وهذا يوجد حالة من الرفض في بلدان مثل المجر وإيطاليا وغيرها من البلدان الأوروبية لقضية المهاجرين". ويضيف "في الوقت ذاته سنجد بلدانا أوروبية أخرى وتحديدا ألمانيا ولأسباب تتعلق بمعدلات النمو السكاني والحاجة المستقبلية إلى الأيدي العاملة، أكثر استعداد لقبول المهاجرين من خارج الاتحاد، وتباين المواقف ذلك أوجد صدعا أوروبيا – أوروبيا في قضية رئيسية، ومنح اليمين فرصة لتعبئة شعبية بأن الهوية الوطنية في خطر طالما بقينا في الاتحاد الأوروبي". ومع فتور الحماس الشعبي الأوروبي للاتحاد بصورته الراهنة، فإن الجدل يثور حول قدرة القوى المحركة لعجلة الوحدة الأوروبية على البقاء متماسكة في ظل تلك الضغوط. فالتحالف الألماني - الفرنسي خاصة بعد سيطرة اليمين الإيطالي على السلطة، يحتل حاليا مركز الثقل بالنسبة إلى القوى المدافعة عن أهمية الاتحاد، وإذا كان الاتحاد قد نجح بلا جدل في تحقيق السلام والازدهار لأوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى الآن، فإن مستقبله من وجهة نظر الدكتور نايجل وليم أستاذ المنظمات الدولية لا يمكن أن يتحول إلى قوى عظمى إلا بخطوات أكثر جذرية قد تؤدي إلى تقلصه لكنها تجعله في الوقت ذاته أكثر صلابة. ويؤكد لـ "الاقتصادية" أن خروج بعض الدول من الاتحاد لا يعني بالضرورة تعرضه للانهيار التام أو غياب مؤسساته من الساحة الدولية، إذ إن أحد أبرز الحلول لخروج الاتحاد من أزمته أن تتبلور بداخله نواة أكثر صلابة تمكنه من الخروج من حالة التميع الراهن، فتلك المجموعة تمثل القيادة القادرة على وضع حد للتفاصيل الخلافية التي تعوق عمل الاتحاد، لكن تلك النواة لكي تكون فعالة وقادرة على الإنجاز، سيتطلب منها إحداث تغيرات جذرية في رؤيتها لإدارة الاتحاد، فلا يمكن لها النجاح دون مزيد من الاندماج الاقتصادي والسياسي، ومزيد من الخطوات لبناء مؤسسات شعبية منتخبة. وأشار إلى أن هذا بطبيعة الحال ربما سيدفع بعض الأعضاء الذين يشعرون بالقلق من الانصهار وفقدان الهوية الوطنية إلى الخروج من الاتحاد، وسيفقد ذلك بالطبع الاتحاد بعض قوته، لكنه سيجعله أكثر تماسكا وتجانسا ويحوله إلى قوى عظمى على الأمد الطويل.
مشاركة :