هيام محي الدين تكتب: تجديد الخطاب الديني (9) مناهج البحث المنهج العقلي

  • 8/31/2018
  • 00:00
  • 14
  • 0
  • 0
news-picture

إذا كان المنهج اللغوي الذي تحدثت عنه في المقال السابق يمثل المفتاح لفهم وتحليل النص الديني برؤية معاصرة ؛ فإن المنهج العقلي الذي سيفصله هذا المقال يمثل المدخل لإثبات عظمة الإعجاز في النص القرآني من ناحية المضمون الفكري والعلمي والأخلاقي والمجتمعي ؛ بعد أن أكد المنهج اللغوي إعجازه من ناحية الصياغة والتركيب.وقد أكد القرآن الكريم في العديد من آياته أنه نزل لمخاطبة العقل الإنساني كمصدر للمعرفة فآيات القرآن لقوم يعقلون ولقوم يعلمون ولقوم يتفكرون ولأولى الألباب تتكرر في القرآن الكريم لتحث على التفكير وإعمال العقل وطلب العلم وتأمل قوانين الكون والنظر العقلي والعلمي في الظواهر الكونية وفي خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار ومواقع النجوم ؛ وعظمة الخالق وقدرته وإبداعه الذي لا يدركه إلا العلماء المتفكرون ذوي العقول النيرة ؛ وربط ذكر الله بالتفكر في عظمة خلقه ؛ وكل هذا ينبغي أن يؤدي من الأساس إلى إعمال العقل في النص الديني والارتقاء في فهمه عبر الأجيال على أساس من اتساع مجالات المعرفة وتطورها عبر التاريخ الإنساني وعدم التوقف عند المنقول من عصور سابقة إذا تعارض مع الحقائق العقلية والعلمية التي توصل إليها العقل البشري والعلم الاستقرائي التجريبي والاكتشافات الدقيقة لقوانين الكون وأساليب الفكر وتوظيفها لسعادة ورقي الإنسان ؛ والغوص في فهم النص الديني متناسقا ومرتبطا بقبول العقل وحقائق العلم ؛ فلا يمكن مثلا أن نأخذ اليوم بقول السابقين أن الأرض قرص مسطح أو أن الشمس تدور فوقها نهارا وتستقر في الليل تحت عرش الرحمن مما يخالف العقل وأبسط حقائق العلم ونعتبر فهمهم هذا دينا منزلا بينما هو فهم بشري في ضوء معارف عصر لم يصل إلى حقائق العلم المعاصر ولا يمكن أيضًا في القضايا الفكرية أن نأخذ بمفهوم الجبرية قديمًا أو من يسمون أنفسهم بأنصار السنة حديثا بأن أفعال العباد قدر إلهي ملزم ثم يحاسبون عليها ثوابا أو عقابًا ؛ كما كان يحدث في أساطير الإغريق أو تجسيم الذات الإلهية بأن لله وجها ويدا وأذنا وعينا ولكنها ليست كأعضائنا تعالى الله علوا كبيرا عن الظلم والتجسيم فالنصوص التي فهموها بهذا الشكل المخالف لمبادئ العقيدة وأسس الإيمان ينبغي إعمال العقل لفهمها بصورة تتفق مع صحيح العقيدة وحقيقة الإيمان ؛ كما أن المنهج العقلي ضروري للتمييز بين النص المطلق الذي يضع قواعد ثابتة للعقيدة والعبادة والسلوك والأخلاق وبين النص المرتبط بحدث معين أو مناسبة أو ظرف زماني أو مكاني كانت سببا في نزول النص ؛ وهو كذلك ضروري لبيان الحكمة من القصص القرآني في ضوء مدارس النقد الأدبي الحديثة وتبين الرمزي والواقعي فيها والحكمة الإلهية من إنزالها بتلك الصياغات والأحداث وتكرار بعضها – وخاصة قصص الأنبياء والرسل قبل الإسلام وأقوامهم وجزاء من آمن وعقاب من كفر – وهذا – في رأيي – مبحث شديد الروعة لم يأخذ حقه من البحث الأكاديمي العلمي حتى اليوم.وقد أبدع العقل المسلم عبر التاريخ تراثا عقليًا وفكريًا وعلميًا مبهرًا شكل الأساس الفكري والعلمي للحضارة الأوربية المعاصرة ؛ ووضع لها الأسس العقلية التي أدت إلى ثورة الإصلاح الديني في عصر النهضة والأسس العلمية للعلوم الرياضية والاستقرائية الحديثة كالطب والكيمياء والفيزياء والجغرافيا والاجتماع ؛ ولكن هذا الفكر لقي اضطهادا مرعبا وهجومًا ضاريا من الفقهاء الذين كونوا كهنوتا متسلطًا معاديًا للعقل مقدسًا للنقل بمفهوم شديد التزمت والانغلاق ؛ فقد بدأ ازدهار المنهج العقلي في الإسلام على يد المعتزلة ووصل إلى ذروة انتصاره في أعلى عصور الحضارة الإسلامية ازدهارًا خلال حكم الخلفاء العباسيين المأمون والمعتصم والواثق وهو العصر الذي تمت فيه ترجمة علوم وفكر الحضارات السابقة ووضع أسس الفكر الفلسفي والعلوم التجريبية الحديثة ؛ واستخدامه في بيان حقائق الإسلام وأباطيل خصومه على قاعدة من فكر عقلي مستنير ؛ ولكن كهنوت النقل المنغلق استدرج المعتزلة بخبث شديد إلى قضية هامشية لا تؤثر في عقيدة أو عبادة هي قضية " خلق القرآن " وضخموها بشكل مبالغ فيه فأصبحت فارقا بين الكفر والإيمان ؛ وأثاروا العامة ضد رأي المعتزلة ؛ وانتهى الأمر بانحياز الخليفة المتوكل لأهل النقل في ردة فكرية اتسمت بالعنف ومارست التكفير والقتل وإحراق كتب أول منهج عقلي في الإسلام وتكفير مفكريه ؛ وتمادى فقهاء النقل في الانتقام من أصحاب المنهج العقلي وعلماء العلوم الفلسفية والتجريبية جميعًا ؛ والإفتاء بكفرهم وزندقتهم فأحرق فقهاء الأندلس كتب أبي الوليد بن رشد التي عرف الأوربيون قيمتها وصنعوا من خلال فكرها الأساس العقلي لحضارتهم الحديثة خاصة كتابية العظيمين " فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال " و " تهافت التهافت " كما كفر " ابن تيمية " العالم العظيم " جابر بن حيان " أبو علم الكيمياء الحديث وأفتى بتحريم علم الكيمياء وكفر من يمارسه واعتباره ممارسا للسحر المحرم نصا ؛ وقال ابن القيم عن الفيلسوف الطبيب العظيم " ابن سينا " إنه إمام الملحدين الكافرين ؛ وقال عنه الكشميري: ابن سينا الملحد الزنديق القرمطي أما الشيخ صالح الفوزان حديثا فقال عن ابن سينا: إنه باطني من الباطنية وفيلسوف ملحد ؛ وأراهن أنهم لم يقرءوا له كتابًا واحدًا أما الطبيب الأعظم " أبو بكر الرازي " صاحب كتاب " الحاوي في علم التداوي " الذي ظل المرجع الرئيسي للطب في جامعات أوربا حتى نهاية القرن السابع عشر فقد نال ما يملأ مجلدات من تكفير وسباب منها ما قاله عنه " ابن القيم " : إن الرازي من المجوس وهو ضال مضل ؛ وقال ابن تيمية عن محمد بن موسى الخوارزمي عالم الرياضيات الأعظم ومؤسس علم الجبر والمقابلة وواضع اللوغاريتمات: العلوم الشرعية مستغنية عنه وعن غيره ، وقال عن الحسن بن الهيثم إنه كان من الملاحدة وكان سفيها زنديقًا كأمثاله من الفلاسفة وهو قول يؤكد أن ابن تيمية لم يقرأ شيئًا مطلقا من بحوث ابن الهيثم في البصريات والفيزياء ؛ وقال ابن العمار عن الفارابي: اتفق العلماء على كفر الفارابي وزندقته وقالوا عن الكندي أبو الفكر الفلسفي الإسلامي والموسيقار العظيم ومخترع آلة " القانون " : إنه كان زنديقا ضالا فرد عليهم قائلا: أنتم من أهل الغربة عن الحق ؛ وإن توجتم بتيجان الحق دون استحقاق وأنتم تعادون الفكر والعقل دفاعا عن كراسيكم المزورة التي تترءسون على الناس منها بتجارتكم بالدين ؛ وكأنه يرد على أهل النقل في عصرنا من المتطرفين.وقد أدى هذا الهجوم على المنهج العقلي والفكر العلمي إلى سقوط الحضارة الإسلامية في جب عميق مظلم من التخلف والجمود ؛ واستفاد الآخرون من إنجازاتها العلمية والفكرية بينما أحرقنا نحن كتب المنهج العقلي وكفرنا مفكريه ؛ ونحن اليوم أمام لحظة فارقة تحتم علينا أن نجدد فهمنا للنص الديني الثابت المحفوظ من خلال منهج يحترم العقل والعلم ؛ وأن نناقش نصوص المرويات واجتهادات السلف في ضوء المنهج.

مشاركة :