تحت ضغط استشراء ظاهرة العنوسة وعزوف الشباب عن الزواج بسبب عدم القدرة على توفير التكاليف العالية، لجأت لجان شعبية في عدد من البلدات والمناطق الجزائرية إلى تسقيف المهور وتحديد “الشرط” في أشياء رمزية، وهو ما اصطدم بانتهاك حق من الحقوق الشرعية للمرأة، في الحصول على مهر مناسب عند الزواج الجزائر - توسعت دائرة الاتفاقات المعنوية المبرمة بين سكان بعض القرى والبلدات الجزائرية، لتشمل مختلف ربوع البلاد، ولم تعد مقتصرة على منطقة القبائل، حيث يعلن بين الفينة والأخرى أعيان لقرية من القرى، عن تسقيف المهر في منطقتهم عند حد معين، من أجل تسهيل وتشجيع الشباب على الزواج، بعد تفشي ظاهرة العزوف، تحت تأثير المغالاة في التكاليف. وتبقى المسألة ترتبط بخيار شعبي واجتهاد محلي لمعالجة مشكلة العنوسة المستشرية في المجتمع الجزائري، خاصة في العقود الأخيرة، وتستمد جذورها بحسب مختصين من نظام “تاجماعت” الأمازيغي، وهي لجنة الأعيان والعقلاء في القرية والبلدة، التي تضطلع بتنظيم الشأن العام المحلي وتوفير الخدمات المشتركة بين السكان. ورغم الإيماءات التي توحي بها من حين لآخر، وزارة الشؤون الدينية والأوقاف، لأئمة المساجد، من أجل حث الناس على عدم المغالاة والتكلف في إبرام عقود الزواج، للحد من توسع مختلف الظواهر الاجتماعية السلبية، فإن سكوتها عن مبادرات التسقيف يعتبر قبولا ضمنيا، رغم أنه يتنافى مع حقوق المرأة في الحصول على المهر الذي تريد. ويذكر شهود عيان أن عملية التسقيف ساهمت بشكل لافت في تشجيع الشباب على الزواج، حيث لاحظ هؤلاء ارتفاع عدد العقود المبرمة في المناطق التي سقفت فيها المهور، على غرار بعض قرى محافظة باتنة بشرق البلاد وبلدات في محافظة غرداية في الجنوب، وسارت على نحوها العديد من مناطق البلاد، لا سيما في الوسط والشرق. وترى أستاذة علم الاجتماع لامية بوسليماني أن “العادات والتقاليد المتوارثة في المجتمع ساهمت في تكريس سلوكات المبالغة والمغالاة في إرساء مظاهر الرياء الاجتماعي، وتحولت رابطة الزواج إلى مشروع كغيره من المشروعات الاستثمارية في بعض المناطق، بسبب التكاليف الباهظة التي أقصت العائلات الفقيرة أو المحدودة الدخل من فرحة زواج أبنائها”. وأضافت “مظاهر التكلف وتصنع الرفاهية والبذخ، كان مفعولها سلبيا على الروابط الاجتماعية، وساهمت في تراجع الإقبال على الزواج، مما أدى إلى تفشي رهيب لظاهرة العنوسة وما يترتب عنها من انحرافات وعلاقات غير شرعية”. ظاهرة تسقيف المهور، جاءت كرد فعل على ارتفاع سن الزواج إلى الأربعين بالنسبة للشباب والثلاثين بالنسبة للفتيات ولفتت إلى أن ظاهرة تسقيف المهور، جاءت كرد فعل من نخب محلية في القرى والبلدات، على ارتفاع سن الزواج في البلاد إلى الأربعين بالنسبة للشباب والثلاثين بالنسبة للفتيات، فضلا عن استشراء ظاهرة العنوسة في المجتمع. وتحصي الجزائر نحو 12 مليون عانس، وهو ما يعادل حوالي ربع تعداد السكان، ما جعل مختصين يدقون أجراس الإنذار من اهتزاز التركيبة البشرية للمجتمع الجزائري، واعتبروها شجرة تغطي غابة الآفات الاجتماعية، فعلاوة على تخبط الشباب في مشكلات السكن والبطالة، يضغط الغلو في المهور على التوجه إلى علاقات خارج الأطر الشرعية. ويذكر مراد (عسكري متقاعد)، في رد عن سؤال لـ”العرب”، عن تفضيله للزواج من وسط البلاد، وهو أصيل منطقة سوق أهراس في أقصى الحدود الشرقية للبلاد، بأن “التكاليف الباهظة ومظاهر البذخ التي تمليها عادات الزواج في منطقته دفعته إلى التفكير في الزواج من فتاة أصيلة ضواحي العاصمة، لأن التقاليد تختلف والناس هناك لا يتشددون في منطق المظاهر”. وأضاف “الزواج في سوق أهراس يكلف صاحبه ما يعادل 20 ألف دولار، وهو مبلغ لا يقدر عليه موظف بسيط أو متوسط، وأما البطال والفقير فحدث ولا حرج، وحتى شقيقي وبعض أفراد العائلة لجأوا للزواج من وسط البلاد، لعقلانية التكاليف”. ومع ترحيبه بما ذهب إليه البعض في تسقيف الأجور في بعض المناطق، استبعد المتحدث أن تنتقل العدوى إلى مسقط رأسه، بسبب تشدد وتمسك الأهالي بتقاليد المظاهر والبذخ المكلف، واستوجب إحداث ثورة اجتماعية من أجل مراجعة العادات المدمرة. وصرح عبدالله دباش مراسل صحافي محلي في محافظة البويرة (20 كلم شرقي العاصمة)، في اتصال لـ”العرب”، بأن “العديد من قرى ومداشر المنطقة لجأت تباعا في الآونة الأخيرة إلى مراجعة تكاليف الزواج، بما فيها تسقيف المهور، لتيسير شروط الزواج، لا سيما بعد معاينة تنامي العنوسة والعزوف حتى في الأوساط الريفية والبدوية”. وأضاف أن “أعيان المنطقة أصدروا وثيقة القيم المشتركة بين عروش (قرى) دائرة مشدالة، دعت إلى ضرورة تمسك سكان المنطقة بعاداتهم الأصيلة في الأعراس والابتعاد عن جميع ظواهر التبذير والبذخ، واشترطت على الزوج المقبل على الزواج تسليم قيمة المهر وتكاليف العرس يوم الفاتحة (العقد الشرعي)، وهو مبلغ يعادل 500 دولار أميركي، يقدم لولي العروسة ليتسنى له اقتناء وشراء متطلبات العرس قبل ثلاثة أشهر من موعده”. وتابع “في بلدتي أهل القصر وأولاد راشد المجاورتين، يشترط أهل العروسة مبلغ أقل من 400 دولار، كمهر لها، في حين لا يشترطون قيمة أغراض العرس التي يشتريها حسب مقدوره، في حين تكتفي عائلات أخرى بمبلغ رمزي (100 دولار) فقط”. ولفت إلى أن الأعيان وأئمة المساجد يسهرون على تنفيذ بنود الاتفاق الجماعي المبرم في المنطقة، ويحرصون على عدم التمرد عليه، حماية للفتيات من العنوسة وتشجيعا للشباب على الزواج. وفيما رحب رئيس نقابة الأئمة جلول حجيمي بتوسع دائرة الاهتمام بمعالجة الآفات الاجتماعية الناجمة عن العنوسة والعزوف عن الزواج، وأشاد بـ”النوايا الطيبة للجان الشعبية المحلية”، فإنه اعتبر مسألة تسقيف المهر تعديا على شرعية حق المرأة في المهر المناسب لها، ودعا إلى عقلنة المهور للتوفيق بين إملاءات الشرع والظروف الاجتماعية والإمكانيات المادية، بترسيخ ثقافة بناء الأسرة والمجتمع وليس التباهي والبذخ.
مشاركة :