لم يكد ينتهي العام الرابع على صدور قرار ملكي يقصر الفتاوى على هيئة كبار العلماء، ويمنع التطرق لـ «شواذ الآراء»، حتى امتلأ الفضاء الإلكتروني بعشرات المواقع «العشوائية» في طرح أفكارها «المسمومة»، ومن بينها «تحليل الجهاد». وضيّق القرار الخناق على فئة من الشبّان الذين انساقوا خلف التنظيمات الإرهابية. لجؤوا إلى مواقع «مشبوهة»، تصدر فتاوى تبيح المشاركة في هذه التنظيمات الإرهابية. واختار الشبّان هذا المسار هرباً من دعوات الوالدين بعدم الالتفات إلى من يغررون بهم، إضافة إلى تجاوز الأنظمة والقوانين، التي لا تسمح بالمشاركة في التنظيمات الإرهابية الناشطة في بلدان عربية، مثل العراق وسورية. وأخذ الشبّان، هذه الفتاوى من هذه المواقع المشبوهة، ليقدموها «حجّة» تشفع لهم للالتحاق بتلك التنظيمات. إضافة إلى جذب آخرين للانضمام إليهم. ورصدت «الحياة» مواقع إلكترونية، لم يتم تحديد هويّة مرجعيّتها بعد، سوى أن القائمين عليها مجموعة من طلاب العلم والفقه – بحسب ما أسموا أنفسهم في معلومات الموقع – تقوم في استقبال الاستفسارات والمناقشات في الأمور الدينية والاجتماعية. فيما يتم الرد على صاحب الاستفسارات في الوقت ذاته من طريق الدردشة. وتنوّعت وظائف القائمين عليها، بين الباحث والمحرر، ومنهم المراجع، ومنهم المدقق والمصحح، والناشر. ويتولى الإشراف على هذا الفريق من الناحية الشرعية أحد أفراده. وجاء أحد الأسئلة في موقع (تحتفظ «الحياة» باسمه) من أحد الشبّان حديثي الدخول إلى عالم الزوجية، استفسر عما إذا كان بالإمكان ترك زوجته لتعيش على نفقة والده، بعد خروجه لما أسماه «الجهاد المتعيّن». ولفت إلى أنه لا يملك مالاً خاصاً به، حتى يعود ويقضي الدين الذي عليه، أم من الأفضل أن يقوم بتطليقها قبل خروجه، كي يبرئ ذمته، أم يقوم بإخبارها بأنها مخيّرة في حال غيابه، برفعها دعوى طلاق أو انتظار عودته، موضحاً أنه أبلغها بأنه خارج للبحث عن العمل في إحدى الدول. وتضمّن جواب المفتي المزعوم أنه «إذا خرجت للجهاد المتعين – كما تقول – فلا بأس بأن تترك زوجتك، لينفق عليها أبوك حتى تعود». وأضاف «المفتي»: «لا تطلق زوجتك. ولا تخيرها بين الطلاق أو انتظار عودتك، وسلم أمرك إلى الله»، مطالباً إياه بـ «الصدق والإخلاص، وحسن التوكل على الله». بدوره، قال رئيس «حملة السكينة» التابعة لوزارة الشؤون الإسلامية عبدالمنعم المشوح لـ»الحياة»: «لا يوجد في المملكة أي موقع يدعم الإرهاب، بشكل مباشر أو غير مباشر». ولفت إلى أن الحسابات الشخصية في مواقع التواصل الاجتماعي من الصعب الوصول إليها. وأكد أن «التصدي إلى الإرهاب فكرياً يزداد قوة، ما دعا المنتمين والمتعاطفين مع التنظيمات الإرهابية إلى التوجه إلى مواقع موجودة في دول عربية، على رغم أنها هزيلة، وليست قوية أو ذات تأثير وفاعلية وزخم، على غرار ما كان موجوداً في 2004 تحديداً». ولفت المشوح إلى أن «الإشكال الحقيقي يكمن في موقع التواصل الاجتماعي «تويتر»، واصفاً إياه بـ «الخطر الأعظم». وأوضح أن «الخطر القادم، الذي يتنامى بقوة موقع «انستغرام»، من خلال الاستفادة من خدماته في وضع الاستعراضات والصور ومقاطع الفيديو، وهو في صدد استحداث خدمة المحادثة الكتابية مستقبلاً». وأكد أن «التصدي للإرهاب يحتاج إلى محورين: نظامي وهو واضح وصريح في مسألة الجرائم المعلوماتية. والثاني الممانعة المجتمعية، والتي ارتفعت في الآونة الأخيرة». وذكر رئيس حملة «السكينة» أن «القرار الملكي دفع المجتمع ليكون في المواجهة، وتفعيل القرار ليس على مستوى النخب، لإسقاط المواقع الإرهابية أو المتطرفة والمتشددة». وأوضح أن هناك «بقايا وترسبات من الماضي، وهي محدودة، وهناك تواصل مع بعض المواقع لمعالجتها»، مضيفاً: «إن الاستجابة قوية من طرفهم». وأشار إلى أنهم قاموا بمخاطبة «أصحاب مواقع تتضمّن تأجيجاً على الثورات، وتدعو إلى المشاركة في المظاهرات، وتم بالاتفاق معهم على أسس عدة، أهمها رفض العنف». وكشف المشوح أن هناك «مواقع تأتي بثوب دخيل على المملكة، ولكن لا تنتمي لها». وأوضح أنها «معاناة»، على رغم اعتنائها في قضايا المجتمع، لكنها تدار من شخصيات غير سعودية. وأوضح أنه تم «رصد حالات لشبّان سعوديين قاموا بالاستعانة بفتاوى ضعيفة، أو فتاوى تبيح الجهاد من مواقع مشبوهة أو عربية». وأشار إلى أن الثقة في الفتاوى التي تصدر من هيئة كبار العلماء في المملكة «لا تزال قوية ومؤثرة». يذكر أن قراراً صدر 2010، قصَر الفتوى على «أعضاء هيئة كبار العلماء، ومن يتم الإذن لهم بالفتوى ممن ترى هيئة كبار العلماء فيهم القدرة على الاضطلاع بالفتوى»، مستثنياً من ذلك «الفتاوى الخاصة الفردية غير المعلنة، بشرط أن تكون خاصة بين السائل والمسؤول، ويمنع منعاً باتاً التطرق لأي موضوع يدخل في مشمول شواذ الآراء، ومفردات أهل العلم المرجوحة، وأقوالهم المهجورة، وكل من يتجاوز هذا الترتيب فسيعرض نفسه للمحاسبة، والجزاء الشرعي الرادع، كائناً من كان». «أستاذ إعلام»: يوجد باحثون عن مفتين بحسب الأهواء < أوضح أستاذ الإعلام المشارك بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في الرياض أستاذ كرسي «اليونيسكو للإعلام المجتمعي» الدكتور عبدالله الحمود، أن قرار حصر الفتوى على كبار العلماء «كنا نتطلع إليه منذ زمن»، لافتاً إلى أنه لا يمكن أن يتصدى للمهمات والقضايا الكلية في المجتمع إلا الراسخون في العلم بصفتهم المؤسسية أيضاً». وأكد ضرورة أن «تتقلد هذه المهمات مؤسسات كبيرة بحجم هيئة كبار العلماء. لأن الفرد وإن اجتهد، فهو مظنة الخطأ في الاجتهاد الفردي»، مضيفاً: «إن العمل الذي يقوم عليه مجموعة من الأفراد بحجم مؤسسة معتبرة، كهيئة كبار العلماء، هو ما يمكن الوثوق به». وذكر الحمود أن «قصر الفتوى في القضايا الكلية ليس قصراً للفتوى على فئة من الناس فقط، ولكن حماية للأفراد الذين ينقص علمهم ومعرفتهم ويبحثون عن الأشخاص الذين يفتون لهم بما تمليه عليهم أهواؤهم وعواطفهم»، واصفاً هذا الأمر بـ «القضية الخطرة مع فئة الشباب، ومع القضايا الممتلئة بالشبهات». وطالب «بمحاسبة كل من يخالف هذا الأمر، وذلك بتقلد الفتاوى، إذ إن ذلك أمر لا يصح الإقدام عليه، وهو غير مرغوب». وأبدى استياءه من بعض طلاب العلم «الذين ينصبون أنفسهم لإصدار الفتاوى في قضايا كلية، إذ ليس الأمر في قضايا الأحوال الشخصية مثلاً، بل في فتاوى الأمة المتداخلة مع السياسة والاجتماع وعلم النفس والتربية وأمور أخرى». ولفت إلى أن هذه الفتاوى «يتلقفها شاب آخر، أو كبير في السن قليل علم، وقد تخاطب عواطفه، وينتج منها ما لا يحمد عقباه». وذكر الأكاديمي الحمود أن «الحد من انتشار هذه الظاهرة واندفاع الشبّان إلى البحث عن مواقع مشبوهة من أجل إصدار فتاوى ترضيهم بالتوعية ببرامج شبابية، وكذلك تحفيزهم إلى الحياة وجعلهم مقبلين على الإنتاج والعطاء والصبر والحكمة، بدلاً من الانخراط في مثل هذه المغامرات البائسة، كذلك استحداث آليات جديدة لجذبهم وتزويدهم بالمعلومات التي تقيهم وتجعل لهم وازعاً شخصياً ومهماً. فإيجاد الوازع الذاتي وتكوينه وتنميته هو خيارنا الوحيد المنتظر». «متخصصة»: يسيّسون الإسلام لمصالحهم الشخصيّة < أوضحت المختصة في الإعلام السياسي نورة العتيبي أن في القرار الملكي الذي ينص على قصر الفتوى على هيئة كبار العلماء «أسلمة للسياسة»، التي تخدم المجتمع وتحقق أمن هذا الوطن بما في ذلك منع تخبط المتحمسين للذهاب إلى مواطن الفتن. ولفتت إلى أن إصدار القرار السابق ذكره الذي تم قصره على هيئة كبار العلماء، إذ تعد صلتهم وثيقة بولاة الأمر الذين تعتبر موافقتهم شرطاً أساسياً لصحة الجهاد من عدمه. وأشارت العتيبي، التي تحمل الماجستير في مجال الإعلام السياسي، إلى أن هناك من «يسيّس الإسلام» لخدمة وتحقيق مصالحه الخاصة مستخدماً الجهاد والقتال في سبيل الله كأدوات يجندها للوصول إلى مبتغاه، إذ لا يجد طريقة لترويج معتقداته و آرائه سوى عبر الإنترنت الذي يعد من أبرز الوسائل الإعلامية التي تستهدف فئة الشباب. وذكرت أن بين «أسلمة السياسة» و«تسييس الإسلام» نحتاج إلى الوعي والاطلاع على المصالح المختلفة والأهداف التي تسعى تلك الجهات والمنظمات التي تحمل شعارات لامعة وبراقة لتحقق مصالحها الخاصة كي لا نحول أنفسنا لأسلحة بأيد أعدائنا. وأكدت أنه إلى جانب الدور في الاطلاع، فإن الدور الأكبر يقع على عاتق وسائل الإعلام في توضيح الغموض والملابسات حول مثل هذه التنظيمات والإشارة إلى تاريخها وأهدافها ومصالحها حتى يكون المجتمع على بينة قبل أن يغرر به.
مشاركة :