أثرت حركة “حماس” بقطاع غزة، وبمكانته، لكنها تأثرت به أيضاً، تماما مثلما أثرت تلك الحركة على النظام السياسي الفلسطيني وعلى السلطة وعلى الحركة الوطنية، وتأثرت بها. قبل سيطرتها على قطاع غزة (2007) قدمت “حماس” لنفسها باعتباره صاحبة مشروع تحرير فلسطين، وتقويض الكيان الصهيوني، وعلى أنها رائدة الكفاح المسلح، والمواجهات العسكرية، وأنها زاهدة بالسلطة، وضد اتفاقات أوسلو، وكل ما نتج عنها، لكنها بعد السلطة تزحزحت عن كل ذلك، تقريباً، وإن بمصطلحاتها الخاصة. هكذا فالحديث الآن لا يدور عن تسوية ولا عن اتفاقات، وإنما عن هدن وتهدئة، وهو لا يشمل القطع بوقف الكفاح المسلح ولكنه يؤكد الاعتراف بالمقاومة الشعبية، باعتبارها أحد الأشكال الكفاحية ضد إسرائيل، إضافة إلى التأكيد على مراعاة الظروف بشأن وقف الصراع المسلح والتحول نحو هدن طويلة أو قصيرة. أيضاً، لم تعد الحركة تتصرف بوصفها مجرد حركة تحرر وطني، فهي أضحت بمثابة سلطة، أيضاً، لذا فهي حريصة على تأمين تغطية مالية لمنتسبيها أو موظفيها في غزة (حوالي 40 ألف)، رغم أن الأموال المتأتّية لهؤلاء تأتي من الدول المانحة، أو الداعمة لعملية أوسلو، وضمنها الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وألمانيا وكندا والدول العربية الخليجية، ناهيك انها أضحت حريصة على مجاملة مصر، وابداء المسؤولية تجاه تأمين موارد العيش لقطاع غزة، وضمنها تلك التي تأتي من إسرائيل، التي تؤمن المياه والمحروقات والمواد التموينية، وغير ذلك. وفي الواقع فإن التحول إلى سلطة أثقل على حماس، واضطرها إلى الاقدام على مراجعات في مختلف المجالات، سيما أن الحديث يدور عن منطقة يعيش فيها مليونا فلسطيني، وهي منطقة صغيرة ومحدودة الموارد ولا معابر لها، إذ إنها منطقة تخضع لحصار مشدد منذ 11 عاما (2007)، أي أن الواقع هو الذي اضطر حماس لإدراك أو تفهّم بعض تعقيدات الوضع الفلسطيني، التي لم تكن تقبل الاعتراف بها، أو تفههما من قبل سيما في خضم محاولاتها نزع شرعية فتح، أو منافستها على المكانة والقيادة والسلطة في مجتمعات الفلسطينيين. مع ذلك فإن وصول حماس إلى هذا الوعي، أو إلى ادراكات سياسية مطابقة للواقع الفلسطيني، بتعقيداته ومداخلاته الخارجية، ظل مشوبا بالاضطراب، لأنه وعي اضطراري، كما قدمنا، ولأنه وعي من خارج المنظومة المفاهيمية التي نشأت عليها حماس، لذا فإنه مع الحديث المتأخر عن دور المقاومة الشعبية يمكننا ان نلاحظ أيضا أن بعض المسؤولين في حماس يستمرئون الحديث، أيضاً، عن توازن الرعب، والردع المتبادل، وزلزلة الأرض تحت إسرائيل، من دون أي مراعات لموازين القوى، وللمعطيات الدولية والإقليمية والعربية المؤاتية لإسرائيل، ومن دون إعطاء الاهتمام اللازم لجوانب الضعف الفلسطيني هكذا، فمنذ البداية لم تكن تجربة حماس ناجحة في غزة، لا في المقاومة ولا في السلطة، فهي لم تكن تعرف ما الذي ستفعله في هذه المنطقة، فهل هي قاعدة لتحرير فلسطين؟ ام قاعدة لدحر الاحتلال في الضفة؟ أم قاعدة للمقاومة واستنزاف إسرائيل؟ ثم هل هي نقطة بداية للدولة الفلسطينية، أم هي مجرد منطقة لفرض سلطة حماس؟ أهذا أولاً. ثانيا: في كثير من المواقف تظهر “حماس” وكأنها تعتبر قطاع غزة في جزيرة معزولة، أو كأن ما يجري في المشرق العربي، من انهيارات مجتمعية ودولتية من العراق إلى سوريا (وصولا إلى لبنان واليمن)، لا يؤثّر على قضية الفلسطينيين، وكأنه لم يعزز مكانة إسرائيل في المنطقة، ويجعل لها اليد الطولى لعقود من السنين، في المنطقة، بعد كل ما حصل، علما أن إيران ذاتها، على ما نشهد، لا تستطيع القيام بأي رد على اعتداءات إسرائيل على مواقعها وقواعدها في سوريا، على سبيل المثال؛ هذا أولاً. ثالثاً: لا يبدو من مواقف حماس ما يفيد بأنها نتاج دراسة ومراجعة للتجربة الوطنية نفسها، بما فيها تجربتها الخاصة، تلك التجربة الغنية وباهظة الثمن والكارثية، في آن معا، وهنا يجدر التذكير بعدة جوانب مهمة، أولها، أن قطاع غزة منطقة تبلغ مساحتها 360 كم2 (1,3 بالمئة من فلسطين التاريخية) يقطنها مليوني فلسطيني، ونسبة البطالة فيها عالية جدا بين الشباب والخريجين، في منطقة تفتقد لفرص عمل ولاستثمارات، وتخضع للحصار منذ 11 عاما (2007). وثانيها، أن إسرائيل لم تخل مسؤوليتها عن القطاع بسبب خسائرها البشرية، لأن تلك الخسائر البشرية أعلى في الضفة الغربية. والمعنى أن بقائها في الضفة، أو خروجها من غزة، تم لاعتبارات أخرى، فالضفة أكبر بكثير (5000 كم2) وهي المجال الحيوي لإسرائيل وللاستيطان، وفيها مناطق خصبة، ومصادر مياه، ولها حدود طويلة مع الأردن، إضافة إلى كونها بمثابة “ارض الميعاد” بالنسبة للأساطير الإسرائيلية الدينية. ومن حيث الاحصائيات فإن عدد الإسرائيليين الذين قتلوا في القطاع منذ احتلاله إلى وقت الانسحاب منه (1967ـ2005) بلغ 230 إسرائيليا (“هآرتس”، 23/8/2005) قتل منهم بين (1967ـ1987) 38 إسرائيليا، وإبان الانتفاضة الأولى قتل 29 إسرائيليا، في حين قتل 39 إسرائيليا منذ توقيع اتفاق أوسلو حتى الانتفاضة الثانية (1993ـ2000)، وفي الانتفاضة الثانية قتل 124 إسرائيليا (من أصل 1060). ورابعها، أن إسرائيل شنت ثلاثة حروب مدمرة على غزة. الحرب الأولى، بين 27 ديسمبر 2008 و19 يناير 2009، واستمرت 23 يوما، وقد نتج عنها مصرع أكثر من 1436 فلسطينيا، وإصابة أكثر من 5400 آخرين، في المقابل اعترفت إسرائيل بمصرع 13 إسرائيليا بينهم 10 جنود وإصابة 300 آخرين. وفي الحرب الثانية، بين 14 نوفمبر و21 نوفمبر 2012، واستمرت ثمانية أيام، فقد ذهب ضحيتها 155 من الفلسطينيين والمئات من الجرحى الضحايا مقابل ثلاثة إسرائيليين. أما في الحرب الثالثة، التي استمرت 50 يوما، بين 8 يوليو و29 أغسطس 2018، فقد نجم عنها مصرع 2174 من الفلسطينيين مقابل مقتل 70 إسرائيليا منهم 64 جنديا. في المحصلة لدينا أكثر من أربعة آلاف شهيد من الفلسطينيين، وعشرات الألوف من الجرحى، بينهم الألوف من المعاقين، ناهيك عن دمار هائل لبيوت وممتلكات شخصية وعامة، في مقابل مصرع 86 إسرائيليا، في ستة أعوام. قصارى القول لقد أثرت حماس في قطاع غزة، في المجتمع وفي النظام السياسي وفي المفاهيم وفي المكانة، ولكن القطاع أثر بها كثيرا أيضا، وأكبر دليل على ذلك أن حماس وصلت إلى حيث انتهت فتح (1993)، وان بمصطلحاتها وبادعاءاتها الخاصة، التي لا تختلف كثيرا عن مصطلحات وادعاءات فتح.
مشاركة :