في الوقت الذي تحتفل مصر بمرور 30 عاماً على افتتاح دار الأوبرا المصرية الجديدة في 10 أكتوبر 1988، تستعيد الذاكرة المصرية ذكريات أول أوبرا أنشئت في البلاد، بل على مستوى الوطن العربي والشرق الأوسط قبل 149 عاماً، إبان حكم الخديوي إسماعيل، وتحديداً في مطلع نوفمبر 1869، قبل احتراقها في 28 أكتوبر 1971. يتداول المثقفون في مصر راهناً، القصة التاريخية لإنشاء دار الأوبرا في القاهرة، إذ يظن البعض أن الدار الموجودة حالياً في ضاحية الزمالك هي الوحيدة التي عرفها المصريون، لكن الحقيقة التي حرص كثير من المثقفين على نشر فصول منها مدعومة بصور نادرة على صفحاتهم في مواقع التواصل الاجتماعي، استهدفت إطلاع الأجيال الجديدة على أن مصر عرفت فنون الأوبرا قبل أن تعرفها المنطقة العربية وقارة أفريقيا والشرق الأوسط. وفيما تستعد وزارة الثقافة المصرية لإطلاق فعاليات عدة تزامناً مع مرور 30 عاماً على افتتاح دار الأوبرا الجديدة، تعود الذاكرة بكثير من المؤرخين وعشاق الأوبرا لتستعيد المشهد يوم الأول من نوفمبر عام 1869، حين عزفت الأوركسترا موسيقى «فيردي»، وقدَّم حشد من الفنانين عرض «ريغوليتو» بجواهر حقيقية احتراماً للشخصيات المهمة التي حضرت عرض افتتاح دار الأوبرا الملكية «الخديوية»، التي كانت تضمّ مسرحاً من أوسع مسارح العالم مساحة وأكثرها فخامة، ويتسع لنحو 850 متفرجاً. وتعد أوبرا «ريغوليتو» واحدة من أشهر أوبرات فيردي، مكونة من ثلاثة فصول وصاغها شعراً فرانشيسكو ماريا بياف، وهي مأخوذة عن مسرحية للكاتب الفرنسي فيكتور هوغو بعنوان «الملك يمرح». قناة السويس وترتبط قصة إنشاء الأوبرا الخديوية (الأوبرا القديمة)، بإقامة حفلات افتتاح قناة السويس المصرية في عهد الخديوي إسماعيل الذي أمرّ بتشييدها، ومن هنا سميت بالأوبرا الخديوية، واستغرق بناؤها ستة أشهر، بكلفة بلغت مليوناً وستمئة ألف جنيه مصري (الجنيه آنذاك كان يعادل 7.5 غرامات من الذهب)، وحضر افتتاحها بصحبة الخديوي إسماعيل، كل من الإمبراطورة أوجيني، زوجة الإمبراطور نابليون الثالث، والإمبراطور فرانسوا جوزيف عاهل النمسا، وأقطاب الفن والسياسة من مختلف أنحاء العالم. وأقيمت الأوبرا الخديوية في أحد أهم أحياء القاهرة آنذاك، إذ سُمي الميدان الواقع أمامها بـ«ميدان التياترو»، ثم تغير إلى ميدان إبراهيم باشا، وفي سبتمبر 1954 سُمي باسم ميدان الأوبرا، وهو الاسم الذي ما زال يحمله حتى الآن. «عايدة» وتحكي كتب التاريخ أنه بمناسبة افتتاح الأوبرا الخديوية طلب عالم المصريات الفرنسي مارييت باشا إلى الخديوي إسماعيل اختيار قصة من صفحات التاريخ المصري القديم لتكون نواة لمسرحية شعرية تفتتح بها الأوبرا، فظهر إلى النور عرض الأوبرا الأسطوري «عايدة» التي كتب نصها الغنائي جيسلا نزوني، ووضع موسيقاها الإيطالي فيردي مقابل 150 ألف فرنك من الذهب، بينما صُممت ديكورات وملابس العمل في باريس، لكن بسبب تأخر وصولها قدّمت فرقة عالمية إيطالية «أوبرا ريغوليتو» بدلاً من «عايدة» التي عُرضت بعد الافتتاح بعامين في 24 ديسمبر 1871. وتشتمل «أوبرا عايدة» على مناظر ولوحات راقصة تتخللها مجموعة من الأغاني، وموزعة على أربعة فصول تجسد الصراع بين الواجب والعاطفة، وتحكي قصة حب نشأت بين أسيرة حبشية (عايدة) وقائد الجيش المصري (راداميس)، الذي حكم عليه فرعون مصر بالإعدام، بعدما اكتشف محاولة هربه مع عايدة إلى الحبشة. تصميم لافت لمدة قرن من الزمان ظلت دار الأوبرا الخديوية تقدم عروضها الفنية، كما كانت واجهة مشرفة لمصر نظراً إلى أنها كانت أشبه بمتحف فني كبير، بتصميم المهندسين الإيطاليين أفوسكاني وروسي، وبالاستعانة بكثير من الرسامين والمصورين لتجميلها برسوم وصور لكبار الفنانيين من الموسيقيين والشعراء. إلا أن هذا الجمال انطفأ حين شبّ حريق فى مبنى الدار فجر يوم 28 أكتوبر 1971، ما زالت أسبابه مجهولة، والتهم كل شيء بما في ذلك ملابس وديكورات وأكسسوارات العروض وكثير من التحف النادرة. وظلت القاهرة من دون دار للأوبرا قرابة عقدين من الزمان، إلى أن تحقق افتتاح دار أوبرا القاهرة الراهنة عام 1988.
مشاركة :