نكتب بأنفاس محبوسة. وبأصابع قلقة. فمقاربة الأمور على وقع طبول حرب مجهولة الشكل، والنتائج تمرين شاق. قد تكون الكتابة، هنا، محاولة لتلمس السير على الحافة. نحسد أصحاب اليقينيات الجاهزة والمجهزة. ونحسد اللائذين بالتفسيرات والتعليلات التقنية عن حجم الضربة الموعودة وحدودها. المراوغة الشعورية التي اعتادها الناس ما عادت تجدي. نقصد بالمراوغة هذا الضرب من التحايل النفسي الذي يجيز لشخص أن يقول إنه هو وأهله بخير ما دامت القذيفة سقطت على بيت الجيران القريب. هكذا، تقاس المصائر السياسية والشخصية بالمسافة المتبقية عن لسان النار وانتشارها. ولأنها مسافات موقتة تبدو المصائر موقتة. لقد أدمنا منذ سنوات التعاملـ بهذه الطريقة مع «المذبحة» العراقية. وكان اللبنانيون تحديداً جربوا إلى درجة الاستئناس هذا النوع من الخلط بين الحياة والبقاء على قيد الحياة. وعلى هذا الخلط، أو الالتباس اللاشعوري، تشكل نمط من العيش تكون فيه البيئة الأهلية، الطائفية أو القـرابـية أو المــناطـقـيـة، مـلاذاً يـدعمـه سيل من الشعائر والمعتقدات لتطبيعه وترسـيخه. على النحو المـراوغ هـذا جـرى التعـاطي مـع الأحداث الساخـنة في غـير بـلد مـن بلدان الربيع العربي الحارق لسنونواته وهي بعد في تحليقها. لقد ساد، منذ اندلاع الانتفاضة التونسية، انطباع عريض مفاده أن الصفة العربية للحراك المتنقل بين مصر وليبيا واليمن والبحرين وسورية، وبدرجة أقل في بلدان أخرى، ليس سوى تعبير عن جغرافيا شعورية وانفعالية تشمل كل المساحات الناطقة بالعربية وكل الفضاءات التي تولي اللغة العربية مكانة كبرى في تمثل الهوية الثقافية والوطنية. ثم رحنا نكتشف أن هذه الدفقات الانفعالية لا تتطابق مع أثقال الجغرافيا السياسية وخصوصيات التشكل التاريخي والوطني ونمط الاجتماع الغالب في كل بلد. الجغرافيا الانفعالية هي التي زينت لكثيرين منا أن الحراك الذي قلب الأوضاع في أشهر قليلة، بصرف النظر عن رأينا في وجهة وحيثيات الانتقال المصحوب غالباً بصعود كاسح للإسلام السياسي، في تونس ومصر وليبيا واليمن، سيطاول سورية ويخرجها بفعل عدوى سريعة الانتشار من الاستنقاع والاستبداد اللذين رعاهما نظام أمني شرس واستحواذي. غير أن الأمور لم تجر وفق هذا التصور المتفائل والتبسيطي أيضاً. فالنظام الأسدي في سورية استخدم حتى النهاية شرنقة العلاقات الإقليمية والدولية التي أتاحت للنظام أن يكون عقدة تقاطعات وتشابكات تحفظ استمراريته وإعادة إنتاج نفسه من دون الارتهان الكلي لقوة أو محور بعينه. السياسة في عرف النظام الموروث عن حافظ الأسد، وعن حزب البعث في معنى ما، هي فن عقد الصفقات والمقايضات التي تحفظ له مكانة اللاعب الإقليمي الذي لا يمكن تجاوزه. واستدعى الحفاظ على المكانة والدور واحتكار السلطة والقوة باسم السيادة تجفيف القوة الاجتماعية وتعليب الشعور الوطني، والقومي العربي، بحيث يتطابقان مع الولاء للسلطة ومنظومتها الأمنية المتفشية والممسكة برقاب النسيج المعقد لمجتمع تعددي على غير صعيد. لقد عول النظام منذ بداية الحراك السوري على مكابرة تستند إلى إطالة لعبة تعميم خوف الكل من الكل. وتزامنت هذه الإطالة مع ارتسام خرائط مضطربة ومقلقة لقوى تتنازع بنهم وجودي على السلطة في البلدان التي خلع رؤوس أنظمتها من دون أن تتضح وجهة جامعة ومشتركة للأطياف التي راحت تدعي، عبر صناديق الاقتراع أو باستعراض للقوة الخارجة من رحم كبت طويل، قيادة الحراك الثوري. وجـاء التـدخل الأطلـسـي في ليـبـيا، وإسـقـاط القذافي وقتله مع أكثر مـن خـمسين ألـف مدنـي، بمثـابـة هديـة مـغشـوشة هي في الحقيقة إعلان عن حاجة القوى الغربية إلى التحكم، قدر الإمكان وعلى نحو متسارع، بالمسار «الثوري» وآفاقه المحتملة. وساهم الحدث الليبي في تـسريع احـتساب المـصـالح ومواقع النفوذ والتأثير لدى قوى دولية وإقليمية متنافسة. وبهذه الطريقة فتح الباب أمام «لعبة الأمم» وراحت مساحات الاستقلال بالسياسات الوطنية، الاقتصادية وغير الاقتصادية، تتعرض للقضم عبر الابتزاز أو الإغراءات أو الضغط. وجرى تغليب لمنطق الاستنساب والكيل بمكاييل مختلفة. وينطبق الأمر نسبياً على الحالة اليمنية. لا يشذ وضع المعارضة السورية، خصوصاً في الخارج وإلى حد كبير، عن هذه الترسيمة. وقد استفاد النظام من تعاظم لعبة الأمم وما يصحبها من مناورات وأكاذيب وتلفيقات وصفقات لتعزيز مقولته عن مؤامرة تستهدف موقع سورية ونظامها في لعبة الأمم بالذات. في الداخل كان النظام يدرك بطريقة شبه غريزية أن التحرر من الخوف، وهو الإنجاز الكبير للثورة، سيطلق العنان لمخزون هائل من العنف ومن نوازع الثأر واستعراض القوة والوجاهة الأهليين ويجرف الواجهة المدنية للثورة فلا يفضي بالضرورة إلى الديموقراطية ما يضعه في وضعية الأقل سوءاً. وتعززت مقولة النظام هذه بفضل تدفق آلاف الجهاديين الآتين من خارج سورية وتشكيل عشرات الكتائب المتنافسة في فنون التشريع والتكفير والقتل لا يقلل من شأنها التباسات مواقف قوى إقليمية حيالها وحيال «لغز» تسليحها وتمويلها وعبورها، ناهيك عن التباسات مواقف قوى وشخصيات بارزة في المعارضة السورية الداعية رسمياً إلى بناء دولة مدنية تعددية وديموقراطية بحيث تعرض الأكثر استقلالية للتهميش والإقصاء. كل هذا يشكل خلفية منازلة تعد بالضراوة ما دامت البوارج تهدر في عرض البحر ومعها تصريحات تستأنف مناورات الخطاب المزدوج. لا حاجة للخوض في لعبة التسخين والتبريد التي تقودها قوى غربية أطلسية في مقدمها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، ولا للعبة التهويل بعظائم الأمور التي يقودها حلفاء النظام السوري كروسيا والصين وإيران. يبقى أن سيناريو التصعيد الحربي المستند إلى قضية استخدام الأسلحة الكيماوية في مجزرة الغوطة الرهيبة والفظيعة وفرضية تجاوز النظام للخطوط الحمراء يشبه إلى حد بعيد سيناريو أسلحة الدمار الشامل واستخدامها ذريعة من الإدارة الأميركية البوشية لغزو العراق وتدمير الدولة والجيش النظامي وتفتيت ما تبقى من اللحمة الوطنية، إضافة إلى سلسلة الفظائع الإنسانية التي رافقت الغزو. فقد صدرت اتهامات فيما تواصل لجنة المفتشين الدوليين عملها وتستعد لتقديم تقريرها قريباً جداً. وجاءت تصريحات الأخضر الإبراهيمي وكارلا ديل بونتي لتزيد شبهة التذرع بالكيماوي لشن حرب أو فرضها على هدير البوارج.
مشاركة :