أنا واحد من المؤمنين بأن بين جميع البلدان الإسلامية كثيرا من المشتركات غير الدين، فحتى الظلم والطغيان الذي تعرضت له بلادنا من المحتل تشابهنا فيه، وهذا يبقى لدى أمثالي الأمل في أن يحدث التقارب والتكامل بين جميع البلاد الإسلامية في القريب العاجل إن شاء الله.ولعل هذه الفكرة هي التي ساقاتني إلى هذا المقال الذي سأربط فيه بين حادثين هامين في تاريخ النضال الوطني ضد المحتل الغاشم الذي يأبى إلا سرقة ونهب مقدرات وحتى إرادة الشعوب في الاستقلال.في هذا المقال سننطلق بعجلة الزمن مائة عام للوراء، وننتقل في متوالية حسابية بين أعوام 1918، 1919، 1920، وبين أشهر مارس وأبريل ومايو، لنقف بين جمهوريتين ناشئتين أعلنتا رغبتهما في تحدي الأطماع الاستعمارية للإمبراطوريات الشرقية والغربية القيصرية منها والبريطانية، إنهما جمهوريتا أذربيجان وزفتى المصرية!نعم، فبينما كان هناك شعب مسلم يقاوم وينتظر لحظة استقلاله ليتنسم رحيق الحرية ويحلم بمستقبل أفضل له ودولته، حتى جاء يوم 28 مايو 1918، ليسجل التاريح قيام جمهورية أذربيجان المستقلة عن الإمبراطورية القيصرية الروسية، كانت هناك المملكة المصرية التي قرر المحتل الغربي ممثل في المملكة المتحدة، تلك الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس آنذاك في 8 مارس 1919، نفي أحد أبرز زعمائها ورفاقه وهو سعد باشا زغلول وأصدقائه مكرم عبيد وسينوت حنا وأحمد باشا الباسل ومحمد باشا محمود وفتح الله وعاطف بركات إلى جزيرة سيشل، وهنا ثارت ثائرة الشعب المصري، وخرجوا رجالُا وانضم لهم النساء لأول مرة في تظاهرات لم يعهدها القطر المصري ولا أي بلد مسلم آنذاك، وكأنهم استلهموا روح التجربة الأذرية من الجمهورية التي تأسست قبل 10 أشهر من هذه هذه التظاهرات التي انطلقت في 16 مارس 1919.فقد أسس محمد أمين رسول زادة أحد كبار الشخصيات السياسية والتاريخية مع رفاقه أول جمهورية في الشرق المسلم، وكانت على الطراز القومي الحديث للدولة التي تقر بحرية الدين وأن جميع أبناء أذربيجان سواسية مهما اختلفت أعراقهم أو دياناتهم أو طوائفهم، وكانت من أوائل دول العالم التي منحت المرأة حق التصويت في الانتخابات العامة، ولربما هذه الميزة هي التي سافرت من أذربيجان إلى قلب ووعي كل سيدة مصرية خرجت في تظاهرات المطالبة بعودة الزعيم سعد زغلول.وكانت الدولة الأذرية المستقلة حديثًا صرخة وحلم لشعب أراد أن يكون رقمًا في معادلة الحياة.. أن يكون فاعلًا وليس مفعولًا به، كذلك كانت رغبة الشاب يوسف الجندي ورفاقه، ألا يستسلموا لقرار الاحتلال الغاشم بنفي زعيم من زعماء مصر، وإجبار المحتل على العودة في هذا القرار بطريقة مختلفة وبعيدًا عن التظاهر، فكانت الفكرة بإعلان استقلال مدينة زفتى الصغيرة الواقعة على ساحل النيل فرع دمياط، والتابعة لمحافظة الغربية عن المملكة المصرية المحتلة، ولتكون جمهورية زفتى صرخة كنظيرتها في أذربيجان في وجه الظلم والطغيان وإعلاء لقيم الحرية والاستقلال والمساواة بين البشر.وإذا كان الشعب الأذري مع قيادته الشريفة سعى منذ اللحظات الأولى من استقلاله لبناء مؤسسات الدولة من وزارات تهتم بالتعليم والصحة، وخارجية تؤسس لعلاقات حسن جوار وتعايش مع جميع دول العالم وجيش قوي قادر على حماية أمن وسلامة الجمهورية الناشئة، فهكذا فعل المحامي الشاب أول رئيس لجمهورية زفتى يوسف الجندي، حيث قام بتنظيم وتوزيع الأدوار التي تحمي أمن وسلامة الجمهورية الصغيرة الناشئة لأطول فترة ممكنة، فكان هناك المسؤول عن التموين والكهرباء والأمن، ووضعت خطة لصد أي عدوان من الإنجليز على حدود زفتى، وتم إعلان جمهورية زفتى في صباح 18 مارس 1919.علم الإنجليز بذلك فشعروا أن كبرياءهم يداس تحت أقدام المصريين في تلك المدينة الصغيرة، فهبوا للقضاء على هذه الجمهورية وتحطيم حلم الاستقلال، فأرسلوا قوة لاقتحامها عن طريق المدينة المقابلة لزفتى وهي ميت غمر؛ لكن تمكن الأهالي من صد هذا العدوان، فعادت القوات للتمركز في القرية.ثم علم الأهالي أن الإنجليز بصدد إرسال مئات الجنود عبر القطار، فقام بعض الأهالي بقطع السكك الحديدية على بعد 15 كيلومترا من الجمهورية الناشئة، ففشل الإنجليز للمرة الثانية في اقتحامها.لكن في 29 مارس تمكن الإنجليز من خلال إرسالهم عشرات المراكب التي تحمل قوات أسترالية أطلقوا النار في كل اتجاه من الاستيلاء على المدينة؛ لكن خلال هذه الأيام التي قامت فيها جمهورية زفتى قد اشتعلت في مصر نيران الغضب التي قذفت الرعب في قلوب الإنجليز ما دعاهم إلى الإفراج عن الزعيم سعد زغلول في 17 أبريل 1919.وفي نفس هذا الشهر وبعد عام، وتحديدًا في 28 أبريل 1920، أبى الروس كما أبى الإنجليز إلا القضاء على حلم شعبين في الاستقلال.. أحدهما في أذربيجان والآخر في مصر.لكن هذه الهزائم المؤقتة التي تعرض لها الشعبان ما نالت من عزمهما، وها هما الآن يسعيان نحو الاستقلال الحقيقي وأن يكونا رقمًا صعبًا في معادلة هذا الكوكب.
مشاركة :