لو عادت الأيام بالشاب "ع.ح " إلى الوراء قليلاً لاختلف وضعه كثيراً عمّا هو عليه الآن، ولا شك في أن من يتحدث إليه ويسمع الكثير من زفراته يدرك حجم الألم والندم الذي يعيشه داخل أسوار دار الملاحظة بالدمام. قصة لا تختلف كثيرا عن باقي القصص داخل الدار ، تتشابه جميعها في البدايات والنهايات، إلا أنها حكايات مبللة بدموع الندم، لأن أصحابها لم يكونوا على وعي بما أقدموا عليه من سوء ، وأن نهاية المطاف ستكون هنا .. "اليوم" انتقلت الى دار الملاحظة بالدمام ونقلت شهادات حية من حكايات الانحراف والتوبة . يقول الشاب «ع.ح 17 سنة»:" أسوأ ما كنت أواجهه في أسرتي المتفككة هو كثرة النصح والمراقبة ولم تزل استغاثات والدتي تقرع أذنيّ حتى وأنا داخل الدار، فقد كانت تتنبأ بما سأكون عليه، وبعبارة يملؤها الندم يقول الشاب : " ضيّعت عمري وشوهت سمعتي" ، ذلك أنه - وحسب قوله - كان يرى رفقته خطا أحمر لا يمكن لأي أحد أن يتحدث عنهم . ويشرح قصته التي جاءت به إلى هذا المكان قائلاً : كنت أخرج من البيت مع مجموعة من الزملاء وأقضي معهم أوقاتا طويلة في الشارع وفي الأماكن العامة لا صلاة ولا حرص على الدراسة ولا أدنى مسؤولية ، وكنت أخرج من بعد العصر عندما يمرون علي بسيارة أحدهم ونستمتع كثيراً بالمغامرات وشرب الدخان . بداية النهاية ونصائح أمي وفي ذات يوم خططنا لسرقة أحد المحلات التجارية كوننا نفتقد إلى المال ، وبالفعل تمت مراقبة المحل لأكثر من مرة وفي اليوم الموعود توجهنا إلى المحل في ساعة متأخرة من الليل وكانت الكارثة ، حيث قُبض على أحدنا وبدوره أحضرنا جميعاً إلى الدار ، ويقول : "هذا جانب من المأساة ، بقي الجانب الأهم والأسوأ وهو كيف تعلم أسرتي بوجودي هنا ، لكنه رغم سوئه أمر لا بد منه . "اتصل قسم الشرطة بأسرتي وطلب منهم إحضاري فوراً وبالفعل ذهبت مضمراً النكران وعدم معرفتي أي شيء ، إلا أن الدلائل وشهود القضية كانوا موجودين في القسم ، عندها تمت إحالتنا إلى دار الملاحظة تمهيداً لاستكمال التحقيق والمحكومية" . ويضيف : وإن كنت لا أريد الخوض كثيراً في قضيتي لأنها تسبب لي الألم الكثير لا سيما عندما أجد أمي تتوسل لمسئولي الدار في التخفيف والتجاوز ، إلا أنني أجد نفسي مجبراً على الحديث ، الأمر الذي يخفف عني الكثير من الألم والحسرة . وعندما سألنا الشاب «ع.ح» عن رفقته الذين كانوا قال : بلا شك هم أساس الكارثة ، وهم رأس المشكلة ، وهم سبب انحرافي ، ولو خيّر لي أن أتحدث بصراحة في الصحيفة لكشفت الكثير من خفاياهم التي كانوا يخفونها ويستخدمونني كأداة لتحقيق مآربهم ، ويضيف : مازالت كلمات أمي باقية كنبرة أبدية أسمعها كل يوم وهي تقول: " لا تفشلنا مع الناس ! لا يضحكون عليك عيال الحرام !" وربما لعدم مبالاتي ومكابرتي في الكثير من الأحيان وحبي لمغامراتهم فقد كنت أحب الجلوس معهم، لا سيما أنهم كانوا يرتبون لي الكثير من الإغراءات مثل التحرش في بعض الفتيان وتوفير الدخان ، ووجود سيارة تنقلنا إلى حيث نشاء . ولعل من الجدير ذكره في خبث رفقاء السوء إنني لا أجد حرجاً إذا قلت : إنني تعرضت لرغبة صديقي في التحرش بي ! ولم أكن أعرف أن هذه الرغبة يضمرها لي عدد من أصدقائي. بكاء والدي يقتلني أما والدي الذي يعمل بوظيفة متواضعة فقد بكى لحظة لقائي به في قسم الشرطة ! ولكم أن تتخيلوا كيف يبكي أبوك والسبب هو أنت أيها الشاب، كنت أتمنى أن أموت في تلك اللحظة لا سيما أن والدي قد ذهب بي قبلها بيوم لتفصيل أثواب لي ولشقيقي الصغير رغم أوضاعنا المادية المتردية ، وليتني سمعت نصحه وتوجيهاته رغم قسوته في بعض الأحيان . إلا أنه كان يخشى أن تأتي هذه اللحظة ، وللأسف أتت وهأنا مسجون في قضية سرقة، ويضيف الشاب «ع.ح» قائلاً : وها قد وقع الفأس في الرأس ، وأنا أنتظر محكوميتي في الدار . فرصة أخرى للحياة وعن الأشياء التي افتقدها يقول الشاب : لقد افتقدت صوت أمي ، وجلسة إخوتي، وحريتي ، وأصبحت منكسراً أمام زملائي وأسرتي، ولا شك في أن وجودي هنا - ولله الحمد - قدرٌ مكتوب ويجب أن أجعل هذه النكبة انطلاقة لمنحى آخر في حياتي . فقد عرفت الصواب والخطأ بقلبي وتلقيت درساً لن أنساه ، وأنا هنا في الصف الثاني الثانوي ، ومتابع لدراستي ومواظب على صلواتي، ولا شك في أن وجودي في الدار يعتبر فرصة للتفكير العميق واستغلال الأوقات بما يفيد ، لا سيما أن الخدمات والإمكانات متاحة ومتوافرة سواء على صعيد المواظبة في الدراسة أو حتى على صعيد تنمية المهارات والهوايات . ويذكر أنه أكمل دورة في الكهرباء، كما أنهى برنامج الوورد في الحاسب الآلي، بالإضافة قراءة عدد من الكتب التي في المكتبة. يومياتي في الدار وعن الجو الذي يعيشه في الدار يقول : لا شك في أنه يختلف كثيراً عن جو الأسرة والحرية، ويشعر الفرد بألم وحسرة لا سيما في الأيام الأولى ، لكن طريقة التعامل التي وجدتها من مسئولي الدار جعلتني أدرك أن المجال مازال متاحاً للتغيير وبشكل أفضل . حيث إن الخدمات والإمكانات متوافرة وقريبة، وأضاف : أقضي يومي بشكل روتيني، ففي الصباح الباكر أصلي الفجر وأذهب إلى المدرسة، وبعد الظهر أعود لأتناول وجبة الغداء، ثم أرتاح إلى أذان العصر ، وبعد الصلاة تبدأ الأنشطة المختلفة في الدار سواء أنشطة رياضية أو اجتماعية أو ثقافية . ولا بد أن ينخرط النزيل في هذه البرامج وعلى رأسها حلقة تحفيظ القرآن الكريم التي تعد مؤشرا على تحسن الشاب وربما تساعد في التخفيف من محكوميته . وأشار الى أن علاقته بزملائه في الدار جيدة ويجد بينهم روح التعاون لا سيما الجادين النادمين ، حيث إن هناك القلة القليلة تعتبر أن وجودها في الدار مجرد تسلية، إلا أنني أعتبر هذه الفترة التي سأقضيها هنا بمثابة مرحلة انتقالية ومنعطف في حياتي . وذكر أنه يتمنى أنه يحصل على درجة عالية في اختبار إتمام المرحلة الثانوية حتى يتسنى له القبول في إحدى الجامعات تخصص هندسة . ألم وندم وفي ختام حديثه قال الشاب «ع.ح» : أتمنى من كل شاب خارج أسوار الدار أن يأخذ نصائحي على محمل الجد ، فأنا أتحدث من منطلق الألم والندم ، وأقول: إذا كان والداك على قيد الحياة أو أحدهما فلا تغضبهما ، فإن دعوة من أحدهما قد تقتل مستقبلك . ولا تغتر باللذة التي تعيشها مع أصدقائك فنهاية كل لذة مغامرة محرمة الندم والعيش في عالم من الانكسار والخجل من المجتمع الذي لا يرحم، وأقول لكل شاب : لا تحاول تفضيل زملائك على والديك أو إخوتك، وجرّب أن تجلس مع والديك وأن تصارحهما بكل ما يجول في خاطرك، لأنهما في المقام الأول والأخير من سيقفان معك في ظروفك المؤلمة.
مشاركة :