أقر مجلس الوزراء مؤخرا، الميزانية العامة للدولة للعام المالي 1436/1437، التي تقدر إيراداتها بمبلغ 715 مليار ريال، ومصروفاتها بمبلغ 860 مليار ريال، وبعجز قدره 145 مليار ريال، وهذا العجز آثار مخاوف البعض من الكتّاب والمختصين، معتقدين بأن ذلك سوف ينعكس بالسلب على الخدمات الحكومية ومشاريعها التنموية. وعلى هذا الأساس، بدأ البعض يتحدث عن كيفية تغطية عجز الموازنة من خلال الاحتياطيات المالية، وإنشاء صناديق سيادية كما هو الحال في العديد من الدول، بالرغم من طمأنة وزير المالية والقول: "إن المملكة قادرة على الاستمرار بخطط التنمية رغم تراجع أسعار النفط". فالاعتقاد السائد هو أنه سوف يكون هناك "تقشف" وتقتير في المصاريف الحكومية بسبب انخفاض الإيرادات، وبالتالي التأخر في إنجاز المشاريع وعدم دفع مستحقات المقاولين، وعدم وجود فرص وظيفية، بالإضافة إلى الضغط على مصاريف البدلات والمكافآت الخاصة بالموظفين، وإلغاء العديد من البرامج الحكومية المهمة للمجتمع حتى تتم تغطية عجز الموازنة.. ولكن السؤال المطروح هنا: هل يعني "ترشيد الإنفاق الحكومي" الضغط على مصاريف الجهات الحكومية؟ يقول الاقتصاديون إن "النمو الكبير والمستمر في حجم الإنفاق الحكومي خلال العشر سنوات الماضية، من المؤكد أنه سيعود بعجز في ميزانية الدولة والميزانيات المقبلة ما لم يتم تحجيم هذا الإنفاق، مما يعني وجود إمكانية كبيرة لترشيده ورفع كفاءته وهذا ما دعت إليه الميزانية في بيانها العام"، ويبقى السؤال: ماذا يعني ترشيد الإنفاق الحكومي وكيف يتم تحجيمه ورفع كفاءته؟ يعتبر الانفاق الحكومي في علم المالية العامة أداة مهمة من الأدوات المالية الرئيسية التي تستخدمها الحكومة من أجل تحقيق أهداف المجتمع، وهي عبارة عن التدفقات النقدية المدفوعة في جميع المعاملات الحكومية، مثل ما تنفقه الحكومة على شراء السلع والخدمات الاستهلاكية لتسيير الوزارات والمصالح الحكومية كالأجور والرواتب والصيانة وشراء الأثاث والمكاتب والأدوات القرطاسية. وهناك الإنفاق الاستثماري لإقامة المشروعات العامة والبنية التحتية والاستثمار في الصناعات المختلفة، وهناك النفقات الاجتماعية مثل الإعانات والضمان التي تهدف إلى تحسين المستوى المعيشي لبعض فئات المجتمع، وهناك النفقات المتعلقة بالإعانات الاقتصادية مثل الإعانات الزراعية وإعانات تشجيع الصادرات وإعانات تخفيض أسعار بعض السلع والخدمات. ولا شك أن الإنفاق الحكومي في المملكة زاد بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة بسبب التطور السريع في حجم الإيرادات العامة والمتأتية من إيرادات النفط، والمترتبة على ارتفاع مستويات الأسعار في الأسواق العالمية، وزيادة حجم الإنتاج، بالإضافة إلى وجود أسباب اجتماعية واقتصادية وإدارية تفسر نمو الإنفاق الحكومي في المملكة، منها على سبيل المثال: زيادة عدد السكان وزيادة الطلب على الخدمات الحكومية، وزيادة المشاريع التنموية، ومشكلة التضخم في مستويات الأسعار، بالإضافة إلى توسع الجهاز الإداري للحكومة. وبالتالي، فإن الميزانية العامة للدولة ليست سوى خطة مالية يقوم على أساسها اتخاذ القرارات الخاصة بحجم ونوع النفقات والأهداف التي تسعى الدولة إلى تحقيقها، وتقوم بوظائف رئيسية أهمها: أنها أداة رقابية على النشاط المالي للدولة من خلال الرقابة على سلامة تنفيذ القرارات وفقا للأنظمة واللوائح، بالإضافة إلى أن الميزانية تعتبر أداة إدارية، حيث إنها تشمل جميع النشاطات الحكومية، وأن الوزارات هي التي ستقوم بتنفيذ تلك النشاطات. ولهذا سوف يكون التركيز على الوزارات والمصالح الحكومية لأنها هي من تقوم بتنفيذ الميزانية، وبالتالي هي المعنية بترشيد الإنفاق الحكومي، حيث تقوم بصرف النفقات حسب الاعتمادات المخصصة لكل وزارة، ويتم الإنفاق لما هو مخول لها نظاما. إن إعداد مشروع الميزانية تقع مسؤوليته على الجهات الحكومية التنفيذية، إذ تقوم بتقدير نفقاتها للسنة القادمة وفق إرشادات وتعليمات عامة، وفي الواقع تسعى بعض الجهات الحكومية إلى زيادة نفقاتها ومصروفاتها بشكل مبالغ فيه يزيد من الإنفاق الحكومي وحجم مصروفات الميزانية، والسؤال الذي يطرح نفسه: ما هي المعايير التي تحدد المبالغ التي تطالب بها الجهات الحكومية في ميزانياتها؟ بالإضافة إلى ما سبق، هناك ارتباط وثيق بين الميزانية العامة والتخطيط الاقتصادي للمشاريع، وبعض الجهات الحكومية لا تستند إلى أسس علمية عند اقتراح المشاريع وجدواها الاقتصادية وكذلك عدم وضوح الأولويات وطرح البدائل، ناهيك عن ضعف التنسيق مع الجهات ذات العلاقة مما يؤدي إلى زيادة الإنفاق الحكومي بسبب سوء التخطيط. أما فيما يتعلق بالصرف، فإن بعض الجهات الحكومية لا تلتزم بالأنظمة واللوائح المالية بسبب ضعف الرقابة، فتستخدم أسلوب صافي الحسابات، إذ يختفي جانب كبير من النفقات، ما يكون مدعاة للإسراف والتبذير في الأموال العامة من قبل هذه الجهات، ومن هذه الممارسات صرف جميع المخصصات المالية في نهاية السنة بأية وسيلة كانت، وإجراء المناقلات بين البنود دون وجود مبررات. ثم يأتي الفساد المالي والإداري كسبب مهم في زيادة الإنفاق الحكومي والمتمثل في الاختلاس والرشوة وتضارب المصالح، وإساءة استعمال السلطة، فيأكل الأخضر واليابس وخاصة في المشاريع الحكومية. أما بخصوص الرقابة على تنفيذ الميزانية، التي تهدف إلى ضمان تنفيذها وفقا للتشريعات المالية وكشف المخالفات والانحرافات ومحاسبة المسؤولين عن ذلك، فقد تحدثت تقارير صحفية عن وجود ضعف في ديوان المراقبة العامة المسؤول الأول عن هذه الرقابة الرادعة. إن معنى ترشيد الإنفاق الحكومي هو ببساطة الإنفاق بحكمة وفق أسس ومعايير علمية، ولا يعني على الإطلاق التقشف وشد الحزام، وبالتالي هناك حاجة إلى تقويم هذا الإنفاق، وحوكمة النظام المالي الحكومي.. صحيح أن هناك تعليمات مالية مشددة تتعلق بترشيد الإنفاق، ولكن السؤال: من يراقب ويضمن الالتزام بهذه التعليمات؟.. الإجابة لدى ديوان المراقبة العامة، فهو من يقوم بالرقابة اللاحقة وتدقيق المعاملات المالية ومراجعة الدفاتر المحاسبية والحسابات الختامية، بالإضافة إلى الرقابة على مدى كفاءة وفعالية الجهات الحكومية القائمة على تنفيذ الميزانية وفق الأهداف الموضوعة.
مشاركة :