جاسم عباس | الحنين إلى الأيام الخوالي يبقى الجامع المشترك بين الرعيل الأول ومن عاش في الكويت، في عصر ما قبل النفط، أو في مرحلة الاستقلال وما بعدها، في هذا اللقاء رحلة مع الذكريات ومع الماضي، نغوص في ثناياه؛ فنبحث وننقب عنه، مع الذين عايشوه تسجل لهم صفحات من عبق التاريخ؛ ففيه رسالة وعبر الأجيال. يتمتع الرعيل الأول بخصائص وفضائل جمّة، منها أنهم يتشاورون ويتعاونون في كل الظروف، حياتهم أخذ وعطاء، يتساهلون في أشد الحالات مع الجميع، هم أصحاب التسامح والأخلاق، ولم يفرقوا بين زيد وعمر، ولم يزاحموا غيرهم؛ كل يأخذ رزقه، لهم آثار طيبة لأرضهم، سافروا عبر البحار والصحاري، كوّنوا تجارتهم داخل البلاد وخارجها، هم وضعوا أيديهم في أيدي حكامهم، استتب الأمن والأمان، هم رجالات الأمس واليوم، ربوا أجيالا للمستقبل، ولم يعرفوا إلا الله سبحانه، ووطنهم وحكامهم، فزعوا بروح واحدة وأيد متضامنة، نهضوا بالكويت نهضة شاملة. التقيت عيسى فهد غانم الغانم، من مواليد 1937 قبل سنة المجلس، الذي تأسس في عام 1938، كان يسمى مجلس الأمة التشريعي. قال ابو عبدالله: أنا من فريج العاقول في الحي الشرقي من الديرة، سمي بهذا الاسم لكثرة نبات العاقول، (العاكول)، شجيرة تعرف بــ «شوكة الجمل»، تظهر في فصل الصيف بين الأشواك. والشجيرة هذه من أجود ما تراعاه الإبل، كانوا يجمعونها، وبعد أن تجف تتخذ وقودا في تلك الأرض، لم نكن نمشي حفاة، خوفا من الأشواك، وإذا لم تُدَس البقعة ينبت نبات النوير، في فصل الربيع تكتسي الارض بأزهار ذات الروائح الجميلة، والأرض التي لا تداس، أي التي لم تُطأ، تسمى «البكر»، بالقرب من بيتنا بيت الشيخ حمود الجابر الصباح، الذي تولى رئاسة البلدية عام 1937 ـــــ 1942، ومن جيراننا المناعي والمعتوق، وكان بيتنا يطل على البحر. الدراسة قال الغانم: درست عند المربّي الملا محمد بن جاسم المسباح فترة قصيرة، ولكنه رحمه الله وهب حياته في تعليم القرآن الكريم وتعليم الكتابة. كان رحمه الله ذا خلق كريم، وله الخبرة بشؤون التربية والتعليم، ثم انتقلت الى الملا بلال عام 1946، حفظت القرآن الكريم، كانت مناسبة سعيدة لا أنساها عندما ألبسوني العقال الزري والبشت المزين بالقراقيش والزري، وحاملا سيفي في يدي بصحبة والدي ووالدتي واخواني، كان موكبا رهيبا وأنا جالس مع الملا على الكرسي، وإخواني يتلون الدعاء (التحميدة): الحمد لله الذي هدانا للدين والإسلام اجتبانا. وأضاف: بعد أن أتقنت القراءة والكتابة كنت أقرأ الأخبار على لوحة بالقرب من كشك الشيخ مبارك الصباح عن الحرب العالمية الثانية، وكان الناس في السوق يقفون خلفي لسماع آخر أخبار الحرب، وكانت الحكومة تطبع الأخبار على أوراق وتعلّقها على لوحة كبيرة، وكنت أقرأ الرسائل الواردة من الخارج للأهالي، وأغلبها كانت من الهند، وواصلت دراستي في المدرسة التجارية أنشأتها دائرة المعارف عام 1952 لدراسة كبار السن لمن يجيد القراءة والكتابة والحساب، وكانت الدراسة بالعربية والإنكليزية والطباعة، كان معي المرحوم أحمد الأيوب، ومبارك التركي وراشد الطخيم، وكان التعليم عن طريق الاسطوانات الحجرية، وكان المعهد بالقرب من مسجد الملا صالح في شارع الجهرة (فهد السالم)، وتسمى هذه الطريقة (باسك). المكتب الصحي وقال الغانم: في عام 1949 عملت في المكتب الصحي لشركة نفط الكويت، كان المدير يعاملنا معاملة حسنة كأننا من أبنائه، عندما نقف في انتظار الباص يقف وينقلنا هو بنفسه في سيارته الخاصة، وعدة مرات أوصلني من الأحمدي الى الشرق، وهو كان ساكناً في الشويخ البيوت الخاصة للشركة، عملت على آلة الطباعة، وكان يضع روبية واحدة على طاولته ليختبرنا بالأمانة، ويأتي في اليوم الثاني يجد الروبية، وكان في وقت فراغه يأخذ معه صناديق فارغة يضعها في سيارة الشركة (همبر) ومعه شداخة كبيرة لصيد الكلاب الضالة وكل ما يصطاد له كلبا ضالا من دون وجود علامة أو رقم في رقبته يعطيه روبية واحدة، وكان يعدم الكلاب الضالة بواسطة «كزوز» السيارة (الماسورة التي في مؤخرة السيارة يخرج منها الدخان)، فيقضي على الكلاب. وكنت ألازمه لمعرفتي باللغة الإنكليزية، ومن ثم أدخلني المدرسة الإنكليزية الخاصة بالشركة، وأتذكر مدير المدرسة اسمه نيستا، وكنت أشاهد سيد حميد بهبهاني وشريكه خليفة الغانم من تجار المعدات الثقيلة. وأضاف: تم تعييني على الآلات الثقيلة، وعملت بالكرين آلة نقل الصناديق من مكان الى مكان، بعد ذلك طلب مني المرحوم مبارك الحساوي ومعه عبدالسلام شعيب ومحمد قبازرد هؤلاء من مسؤولي الميناء والجمارك أن أعمل أمينا للمستودعات، ومن ثم عملت في وزارة الداخلية في لجنة الجنسية، كان معي: المحسن المضف، والرفاعي ومبارك الخنة، وأحمد العلي من عام 1960 ــ 1964. الغوص والسفر وقال أبو عبدالله الغانم: نحن أبناء الغانم ارتبطنا بقيادة السفن الشراعية، مارسنا حرفة الغوص والسفر من عائلتنا حوالي (18 نوخذة) من جدنا الكبير محمد الغانم حتى أحفاده، هم من أشهر النواخذة، قادوا السفن الشراعية حتى نهاية السفر الشراعي الكويتي، منا: النوخذة محمد بن حبر الغانم، قادة البغلة السفينة الضخمة التي وصلت الى الهند وشرق افريقيا وعدن، والنوخذة ابراهيم الغانم الذي كان يحمل على «البغلة» التمور من البصرة، يقوم برحلة الى كراجي وبراول وخورميان ثم كاليكوت في الهند، ويعود بالأخشاب والمواد الغذائية، والنوخذة عيسى محمد الغانم قاد السفن الشراعية من نوع «البوم»، والنوخذة ثنيان محمد الغانم، والنوخذة أحمد محمد الغانم، وخليفة بن شاهين الغانم كان نوخذة وتاجرا وراوياً للتاريخ، ومحمد بن شاهين الغانم قائد سفينة «عمبر طويل» سفينة والده، والنوخذة جاسم شاهين الغانم قاد سفينة والده في عام 1916، ومحمد ثنيان الغانم يعتبر خبيراً في الطرق البحرية، ترك الفن الشراعية أخذ يسافر على البواخر والنوخذة علي خليفة الشاهين الغانم، هذا البحار الماهر كاد يفقد حياته غرقا حين قذفه أحد حبال الشراع، ظل يسبح طوال الليل، وبحارته عثروا عليه. وأضاف أبو عبدالله الغانم: من نواخذة بيت الغانم من الجيل الأخير عبدالوهاب خليفة الشاهين الغانم، والنوخذة يوسف ثنيان الغانم، وعبدالله يوسف الغانم وعبدالله محمد الغانم، وخالد محمد الغانم، وغانم الغانم، ومحمد بن علي الغانم، وشاهين يوسف الغانم، وسلطان عبدالله الغانم. وقال: رحلة الغوص كانت لمدة اربعة شهور في أيام الصيف؛ من منتصف مايو وتنتهي في نهاية سبتمبر، يرحلون الى مغاصات اللؤلؤ على الساحل الغربي للخليج العربي، وأما السفر فرحلة بعيدة الى البحر في فصل الشتاء لنقل البضائع الى الهند وسواحل شرق أفريقيا وزنجبار والصومال، تبدأ من سبتمبر الى أوائل شهر ابريل، وأما رحلة القطاعة فكانت الى موانئ الخليج وكراجي في الباكستان، رحلة لنقل البضائع. دردور.. يريور وقال الغانم: كنت أمشي من رأس عجوزة المنطقة، المقام فوقها برج الكويت حاليا، وهو رأس منخفض، وقد شيد فيه أقدم قصر للشيخ أحمد الجابر الصباح، وبهذه المنطقة أول محطة للشاشة المرئية (التلفزيون) أثناء مشيي من البداية كنت أتخيّل أن معي أحد الاصدقاء، وكنت أتحدث مع نفسي، وما زالت هذه الأحاديث، وأقول كما سمعت من آبائي: رأس عجوزة مكان خطر، لأن بحره فيه دوامة البحر، ونحن نسمي هذه الدوامة بــ «دردور»، ويسمى بـ «سيور البحر»، وأيضا يسمى هذا المكان الخطر بــ «شيمية»؛ مكان يجيش فيه الماء ويغرق السباح، لأن به حركة دردورية قوية، وبالإنكليزية vorticity، فهذا المكان بداية السور الثالث، ومن قبله لا يستطيع أحد دخول مدينة الكويت جهة البحر لقوة الدرادير (جمع دردور)، وينتهي السور الثالث الذي يمتد الى ساحل الشويخ من ناحية الغرب عند دروازة المقصب، الآن بالقرب من فندق شيراتون، وسميت البوابة بالمقصب لوجود مكان خاص لذبح الأغنام والإبل والأبقار، فكان الدم وبقايا الحيوانات ترمى قديما في البحر، فتتجمع أسماك اليريور (الجرجور ــ القرش) ايضا كانت من الأماكن الخطرة، ولا يستطيع أي إنسان الاقتراب منها لوجود السور واليراير. وقال: وكنت أصل في مشيي إلى سكن الممرضات، ثم المستشفى الأميري، وديوان الملا صالح، وحظور الأسماك لمحمد الرشود، والقنصلية البريطانية، وأتحدث مع نفسي هذا بيت المسباح، وبيت الشيخ فهد السالم الصباح، ومستشفى الأميري، بيت ابن سبت، والمدرسة الشرقية وبيت عبدالله الأحمد الصباح، والنقيب، وأحمد الغانم، الغيث البيت الذي اشتراه محمد قبازرد، وأصل في سيري الى فريج القضيبي والغانم وبروسلي، ومسجد الناهض وسيد مندني وسيد غريب لبيع مواد الإنشاء والتعمير من الخشب والبواري والباسجيل والكاري وحطب الوقود وعمارة بوقماز والمناعي، وبيت البكر، وعمارة عبداللطيف الحمر، والصباغة الذي تغلغص بومه في السكة، أي تعسّر عليه إخراج البوم لضيق الممرات، وبيوت الروضان والشملان وهلال والمضحي، والمضف، ثم بيوت النصف والعسعوسي، وبيت ديكسون، كنت أمشي والبحر على يميني حتى أصل الى البهية (مكان مرتفع جنوب قصر السيف، وبيت البدر والنقع (جمع نقعة) مرسى للسفن يسور بالصخور البحرية). وقال: أصل في حديثي مع نفسي الى الوطية وبيوت المرزوق والصقر وبهبهاني، وبراحة الناصر البدر، وكانت تسمى ببراحة عباس، وقهوة البلوشي، وقهوة بوعباس في فرضة الجولان. بين النوايا والأعمال ــــ آباؤنا نياتهم روح أعمالهم، وهم ضد الغفلة. ــــ الكلمة الزينة ببلاش، والشينة ايضا ببلاش؛ فلماذا لا تخرج الزينة؟ ــــ صاحب النية الصادقة صاحب القلب السليم. ــــ نية الآباء كانت ممدوحة؛ لأنها لوجه الله. ــــ سمعنا من الأولين: إن الله لا ينظر الى صوركم وأموالكم، إنما ينظر الى قلوبكم وأعمالكم، وإنما ينظر الى القلوب؛ لأنها مظنة النية. ــــ النية في نفسها خير، وإن تعذر العمل. ــــ لم نكن نعرف العنفصة أو العفرطة؛ أي المشاكسة والمشاغبة والهرج والمرج، طريقنا تخليص النية في الطاعات. ــــ إذا التقينا كان أفضلنا أشدنا حبّاً لأخيه. أمثال عن الديك ــــ صياح الديك يستحضرنا بموعد الصلاة. ــــ يضرب بجناحيه قبل صياحه. ــــ يقف على مرتفع؛ ليُسمعنا موعد الصلاة. ــــ يُضرب به المثل في المشي باختيال والشجاعة والنخوة والغيرة والسخاء والحسن والنكاح، وبصفاء عينيه. ــــ إذا وقف الديك على شربة ماء توقّف، واستقدمنا لنبدأ بالشرب قبله. ــــ إذا سمع صوتا مزعجا انتفخت أوداجه وتصلّبت أعصابه، واستعد للقاء المكروه بنفسه. ــــ جمال الديك فتنة، وصورته سحر. ــــ كم يتمنى الإنسان أن ينقلب جسمه كله أذنا واسعة لتتلقف صوته الجميل، خصوصاً نداءه للصلاة في الصباح من أعذب لسان.
مشاركة :