تشوهات التفاحة المقضومة

  • 9/15/2018
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

د. نسيم الخوري كان تكوين الإنسانية الطبيعي وبلوغها العام يحصل عبر الدوائر التقليدية المألوفة، أعني الأرحام، والبيوت، والمدارس، والجامعات، والمجتمعات، والدول، تكتنفها سبع محطات من الفطام. وصارت البشرية أسيرة سجن كوني يرميها في شهوة جامحة شاملة وعبثية في حاجات التواصل، وتشهد تباعاً انسحاب السلطات من هذه الدوائر، بما يبهت المقدّس أمام فوران الغرائز، وحشر الأجيال في انسحاقهم لتقنيات العصر المدهش، وتطبيقاته. لنمهّد بأن «ماكنتوش» بتشوّهات تفاحته المقضومة أدقّ من حشرة في أرض الخالق. *أولاً: تعتبر دائرة التكوّن في الرحم القاعدة ونقطة الإرتكاز. وأهمّ ما فيها، وأكثره قوة، وبلاغة، ليس تلك الهندسة الإلهية في نمو الجنين، وتطوره خلال رحلته نحو العالم عبر الشهور التسعة، بل في ما يجهله العديد من الناس. أخبرني طبيب عربي بارع متخصص في المجال، ويعمل في الولايات المتحدة الأمريكية فقزّمني إلى حدود أصغر من نملة تدب في دنيا من الخشوع، ويقظة الإيمان. قال: تصوّر أنّ لحظة التلاقح التي تجمع ذكراً وأنثى بنيّة الإنجاب التي لا يمكن قياسها علمياً، ينبثق معها ما يشابه شعاعاً، أو برقاً لطيفاً سحرياً، كان لا يمكن رؤيته، أو إدراكه، أو رسمه من قبل، تلك البرقة/الصوت صار يمكن رصده طبياً، وتقنياً. هل فهمت ما أقصد؟ لويت عنقي مندهشاً علامة الجهل. قال: تلك اللحظة/البرقة/ هي أول ضربة للقلب تعلن أن إنساناً جديداً بدأ قلبه ينبض. تنساب تلك الضربات للقلب من دون توقف فتروح تنسج خلايا اكتمال القلب، وأعضاء المضغة، فالجنين عبر محطات شديدة الدقة متكاملة نستطيع تقفي خطواتها، ومتابعتها، أسبوعاً فأسبوعاً. إنها تتجاوز كل عقل، وتصوّر، أو فهم، وهي المؤشر الأعظم لما نسميه بالطاقة الإلهية، ولن يتمكن العلم من تحديد تلك الضربات أي مدى عمر الوليد بعد خروجه إلى العالم وصولاً إلى الشيخوخة. يمكنك أن تسمّي قطع حبل الصرّة بين الأم والوليد الفطام الأول. في تلك اللحظة الثانية يبدأ عبث البشر فيخرجون بالمولود من اكتماله الأول والأعظم في رحم أُمه ويبدأ رحلة خسارة توازنه الجسدي والغذائي وخربطة خريطة الكمال لديه كمخلوق. تحتل دائرة النمو والتربية في المنزل بعد ذلك حيث الرضاعة والتغذية وخلخلة الهندسة الخاضعة للعلوم والكشوفات التي تحمل الكثير من الخلل والعبث والتجارب المتكاملة والمتناقضة، كما الاجتماعية، وتشعبات القرابة، والإدراك، والأحاسيس، والنطق، ونقل القيم والأفكار. إنّ اللحظة الأقصى في هذه الدائرة هي الفطام عن ثديي الأم، أو ما يعرفونه بالفطام الثاني. يليه الفطام الثالث عندما يغادر الأطفال منازل ذويهم نحو دور الحضانة، ومعه نرى الأهالي يتسمّرون دامعين عند أبواب الحضانات، والعديد من أطفالهم يصرخون رفضاً هذا الفطام القاسي في الرحلة الجديدة. وتتوسّع مدارك الأطفال في الترقي من الحضانات إلى المدارس بمراحلها المختلفة، بحيث تخفّ حدة الفطام الرابع وفقاً للأربطة بين الحياة المنزلية والحياة المدرسية، إذ يدخل الأولاد صفوفاً يتدرجون فوق سلالم العلم والتمييز بين الخير والشر، والصحيح والخطأ، وغيرها من مناهج التعلّم والترقي والتهذيب، وصولاً إلى ما يمكن تسميته بالفطام الخامس الممتع، واللذيذ، والمغمّس بالشعور بالاستقلالية، وتلمّس الذات، والحرية، والتأهل بعد سنوات إلى مغادرة الأحرام الجامعية، حيث يعتبر هذا الخروج، أو التخرّج الفطام السادس الأقسى والأمتع عندما تنتصب الدنيا في الوجوه، والانخراط في المجتمعات بهدف الإنتاج والعمل والاستقلال نحو صرف ما تبقى من ضربات القلب، حيث الموت، أو الفطام السابع. *ثانياً: من المولود بصورته الأولى في حضن أمه، وسبابته فوق مواقع التواصل، إلى تهافت البشر لحجز المواقع والنوافذ الإلكترونية أو «Land claim» يكفي ابتكار فكرة، أو مشروعا وحجز موقع يسميه، ومنه يتصل ويحيا في حقائق واقعية وخيالية وفي نيته سلطة لا متناهية يحتل بها الكرة الأرضية. بهذه الصورة، نستعيد تاريخ أمريكا بعدما اكتشفها كولومبوس، حيث كان يكفي لأي عابر فوق حصان، وبيده بندقية احتلال قطعة أرض لتصبح ملكه، وميداناً ينطلق منه في تحقيق سلطته، ومراميه. نعيش اليوم في الفضاء حيث الفطام الكوني الذي يعزّز بالتواصل تراكم القطيعة الهائل بين القديم والجديد، والحديث والمعاصر، ويجمّل الأزمات والفردانيات والوحدانيات، وتفريغ الموت من مضامينه. تتماهى الأجيال بالوسائل والصور السريعة الاندثار لتصبح محكومة بالصفات عينها، خصوصاً لذة الاضمحلال وطغيان المعاصرة والانتحارات البطيئة والساخنة، وكلها تحقيق للإنتاج والاستهلاك. ويتم تبادل الأدوار بين الأجيال فيذوي كل الفكر المبني على المعرفة بهدف امتلاك الخبرة، ونرى الدنيا مأخوذة بحواسها الخمس بالماوس. القليل من المعرفة مع الكثير من الخبرة هي القاعدة الأمثل لترسيخ الفطام العالمي الإنساني، وتأكيد فكرة ضياع الحضارة، أو موتها قبل البلوغ.

مشاركة :